رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قتيلان فى جنازة!


جنود من الجيش الإثيوبى، وعناصر من الشرطة الاتحادية والمحلية، انتشروا فى شوارع مدينة «أمبو»، مسقط رأس المطرب الشاب، هاتشالو هونديسا، وأطلقوا الرصاص بشكل عشوائى، لمنع الحشود من المشاركة فى جنازته، ما أسفر عن إصابة تسعة، مات اثنان منهم فى المستشفى.
لقى المطرب الشاب، ٣٤ سنة، مصرعه رميًا بالرصاص، مساء الإثنين، بعد لقاء تليفزيونى هاجم فيه «أبى أحمد»، رئيس الوزراء الإثيوبى، وائتلافه الحاكم. وتسبب مقتله، مع اعتقال جوهر محمد، فى احتجاجات واسعة بالعاصمة الإثيوبية، وفى منطقة أوروميا، أكبر الولايات الاتحادية الإثيوبية. وعليه، كان طبيعيًا أن نتشكك، أمس، فى فقدان «أبى أحمد» لعقله حين زعم أو توهم أن أعداء الخارج والداخل هم الذين ارتكبوا تلك الجريمة، ليمنعوه من استكمال ما بدأه، وتحديدًا إكمال بناء سد النهضة، الذى تزامنت عملية الاغتيال مع اجتماع لمجلس الأمن عجز مندوب إثيوبيا خلاله عن تقديم أسباب منطقية أو معقولة لتعنت حكومته فى المفاوضات، مع مصر والسودان، ولإصرارها على بدء مل خزان السد دون اتفاق.
بثّ مباشر أظهر أن السلطات الإثيوبية لم تسمح إلا لأعداد قليلة بالتجمع فى ملعب لكرة القدم، أقيم فى وسطه منبر صغير. وخلال مراسم التأبين البسيطة ألقت سانتو ديميسيو ديرو، زوجة المغدور، كلمة قصيرة، قالت فيها: «هاشالو لم يمت، سيبقى فى قلبى وقلوب الملايين فى الأورومو للأبد». ونقلت وكالة «رويترز»، عن أربعة مواطنين، أن إطلاق الرصاص استمر، بشكل متقطع، بعد انتهاء المراسم. وذكر آخر أن حواجز الطرق انتشرت فى المدينة، التى تبعد ١٠٠ كيلومتر عن العاصمة أديس أبابا، وأنه لم يتمكن من العودة إلى منزله!.
جنود الائتلاف الإثيوبى الحاكم، إذن، وليس أعداء الخارج والداخل، هم من قتلوا هؤلاء الاثنين، كما قتلوا، حتى صباح أمس الأول الخميس، أكثر من ٨٠ مواطنًا، خلال الاحتجاجات، توقعنا أن يُضاف إليهم عشرات آخرون، مقابل خلاص رئيس الوزراء الإثيوبى من جوهر محمد، أبرز منافسيه، والذى اتهمته الشرطة الإقليمية، فى بيان، بمحاولة اغتيال قيادات فى الحزب أو الائتلاف الحاكم، وبمحاولات اغتيال، جرت فى يونيو ٢٠١٩، واتهمته أيضًا بمحاولة اختطاف جثة المطرب الشاب، والذهاب بها إلى مقر الحزب، لكى تكون غطاءً لاغتيال قياداته!.
بالفعل، تزايد عدد القتلى، ليصل إلى ٩٨، بالإضافة إلى إصابة ٧٦ آخرين بجروح خطيرة، بحسب بيان أصدره مصطفى قدير، نائب قائد شرطة المنطقة، مساء الخميس. وبالإضافة إلى جوهر محمد، طالت حملة الاعتقالات أعدادًا كبيرة من رموز المعارضة، وتم وضع عدد كبير من زعماء الأورومو تحت الإقامة الجبرية، أبرزهم داود أبسا، قائد جبهة تحرير أوروميا، وميريرا جودينا، رئيس حزب «مؤتمر الأورومو الاتحادي» المعارض. ومع ذلك، اكتفى أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بدعوة «جميع الأطراف فى إثيوبيا» إلى الهدوء، وطالبهم بـ«الامتناع عن القيام بأى عمل يغذى التوتر»!.
جوهر محمد، سياسى بارز، ينتمى إلى عرقية الأورومو، ويُعد أبًا روحيًا لنضال شبابها. ويملك شبكة إعلام محلية فى إثيوبيا، اقتحمتها قوات الأمن، واعتقلت كل العاملين فيها، قبل أن تطلق سراحهم لاحقًا تحت ضغوط شعبية. وكان لجوهر، وهاشالو، دورًا كبيرًا فى الاحتجاجات، التى أطاحت برئيس الوزراء السابق، وأتت بـ«أبى أحمد»، المنتمى إلى العرقية ذاتها. غير أن الأخير تخلى عن عرقيته، فتخلت عنه، وتحول مؤيدوه إلى معارضين، مع استمرار القمع، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، السياسية، والأمنية. وشهد أكتوبر الماضى، احتجاجات واسعة، قام خلالها أبناء الأورومو بإحراق صوره ونسخًا من كتاب أصدره بعد فوزه بجائزة نوبل للسلام. وكالعادة، سقط خلال تلك الاحتجاجات ٨٦ قتيلًا بالإضافة إلى مئات الجرحى.
طبيعى، أن يؤدى هبوط شعبية «أبى أحمد» فى موطنه، أوروميا، إلى تقليص فرصه فى الفوز فى الانتخابات القادمة، التى كان مقررًا إجراؤها فى مايو الماضى، وتم تأجيلها إلى أغسطس القادم، ثم إلى أغسطس بعد القادم، أو إلى أن يشاء الله. وطبيعى، وسط تلك المعجنة، أن يتحوّل «سد النهضة» من قضية تنموية إلى نقطة ارتكاز، يتكئ عليها الائتلاف الحاكم فى معركته مع القوى المتصارعة على السلطة، وأن يتخذها، مع تفشى وباء «كورونا المستجد»، ذريعة لتأجيل الانتخابات، بعد أن أدرك أن فرصه فى الفوز فيها تكاد تكون معدومة. وبات فى حكم المستحيل أن ينجح «أبى أحمد» فى استعادة شعبيته المفقودة بين أبناء عرقيته، الذين يمثلون حوالى ٤٠٪ من سكان البلاد.
قمع الاحتجاجات، بالقوة، سيؤدى إلى تمرد، والسماح بها يعنى فقدانه السيطرة. وتأسيسًا على ذلك، ولأسباب أخرى يطول شرحها، سيصر الائتلاف الإثيوبى الحاكم على عدم التوصل إلى اتفاق بشأن قواعد ملء خزان «سد النهضة»، وسيحرص على أن يظل هذا الملف مفتوحًا، إلى أن يضطر، مرغمًا، إلى غلقه، أو حتى يترك الحكم.