رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس فى الفردوس يصلى


منذ فترة كان لدىّ أهتمام شديد بمطالعة تاريخ وعمارة وآثار مدينتى المحبوبة "الإسكندرية"، فلجأت إلى مكتبتى العامرة بأمهات الكتب، بعضها كانت بمكتبة والدى الخاصة بالآثار والتاريخ، والبعض الآخر كنت بدأت تكوينها على مر العقود من الزمان. إحدى الكتب التى وجدتها بمكتبتى كان من تأليف الكاتب الأمريكى "ميشيل هاج" وكان يعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وتم نشر كتابه بعنوان "الإسكندرية المصورة" بدار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة. والكتاب ملئ بالعديد من الصور الرائعة والشرح الوافى للعديد من الأماكن الأثرية بالإسكندرية، ومن بين هذه الأماكن المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية. أخذت أتصفح الكنوز الموجودة بالمتحف وفجأة وجدت نفسى أمام صورة وقفت أمامها متأملاً، ووجدت المؤلف الرائع سجل شرحاً للصورة تحت عنوان "قديس فى الفردوس يصلى"، وهى قطعة من الفريسكو يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادى عُثر عليها بإحدى الكنائس الواقعة خلف بحيرة "مريوط"، وفى الواقع أن تلك المنطقة عندما كانت مزدهرة، كانت مليئة بالعديد من الأديرة والكنائس.
الرسم الموجود بالقطعة الفريسكو مليئة بالتقوى والهدوء وحُب الصلاة. ففكرت أن أى إنسان – وهو على الأرض – إن كان محباً للصلاة، حتماً لابد أن تلازمه حياة الصلاة وهو فى السماء. ومن أكثر الأشخاص الذين رأيناهم فى حياتنا محبين للصلاة هو البابا كيرلس السادس البطريرك 116 الذى عاصرته عن قرب منذ عام 1959 (عندما كنت أبلغ من العمر 9 سنوات) حتى عام 1971 (عندما كنت أبلغ 21 عاماً). لذلك ما سوف أقوم بتسجيله فى هذا المقال هو الشهادة الأمينة لمن رأوه كرجل صلاة، لذلك أخترت عنوان المقال "البابا كيرلس فى الفردوس يصلى".
يذكر كاهن الإسكندرية الوقور القمص ميخائيل سعد (1909 – 1996) فى مذكراته الشخصية العديد من الذكريات المرتبطة بالبابا كيرلس السادس منذ أن كان شاباً بالإسكندرية وحتى بطريركيته فقال:
حوالى عام 1920 قدُم إلى الإسكندرية الواعظ يوسف أفندى مجلى بعد تخرجه فى الكلية الأكليريكية بالقاهرة وعينه الأنبا يؤانس المطران واعظاً للكنيسة المرقسية إلى جانب خدمة الوعظ بجمعية الثبات بحى راغب باشا. وإذ كان بيتنا قريباً من جمعية الثبات كنت أتردد على اجتماعات هذه الجمعية مساء الثلاثاء لدراسة الكتاب المقدس، وعصر الأحد لسماع العظة الأسبوعية. وكنا فى اجتماع الثلاثاء نحو عشرة أفراد، وكان يجلس فى المقعد الأخير الشاب "عازر يوسف عطا" (البابا كيرلس السادس فيما بعد). ثم يستكمل الأب ميخائيل سعد ذكرياته مع الراهب مينا البراموسى المتوحد (فيما بعد البابا كيرلس السادس)، فسجل خواطره عند زيارته لدير البراموس عام 1933 فقال:
أبرز ما شدنى للتعلق بدير البراموس هو مجموعة الآباء الرهبان من الشيوخ القديسين الذين أعتز بأننى جلست وتحدثت إليهم وأخذت بركتهم وهم: القمص عبد المسيح المسعودى وكان رجلاً عالماً وتقياً ورعاً، وشقيقه القمص يعقوب البراموسى الشيخ القديس، والقمص عبد المخّلص الحبشى وكان شيخاً قديساً أصيلاً ومتوحداً فى قلايته، والقمص مينا المتوحد (البابا كيرلس السادس). ثم يسجل القمص ميخائيل سعد الآتى:
حضر الراهب مينا المتوحد من المغارة التى كان يقيم بها لحضور القداس الالهى فى الدير، ووقف منفرداً فى الهيكل يتلو صلواته. وإذ كنت أعرفه منذ حداثته .. سلمت عليه وأستأذنته فى الأعتراف وكان يدقق معى فيما أقول .. وأخذ الأعتراف وقتاً، ثم صلى على رأسى. وفى النهاية أستأذنته لزيارته فى المغارة التى كان يقيم بها غرب الدير فسمح لى بذلك. وبعدها بيومين ذهبت إليه بصحبة القمص صموئيل تواضروس السريانى، ولما وصلنا إلى المغارة وجدنا لها مدخلاً واحداً عبارة عن طاقة فى أعلاها!! .. ولما نادينا عليه برفق قدم لنا سلماً صغيراً فنزلنا عليه إلى المغارة. وكان جوهاً جميلاً ومفروشة بحصير نظيف وفى ركنها بعض الكتب ووسادة وغطاء .. جلس ثلاثتنا صامتين هادئين. ثم سأل كل منا الآخر عن أحواله – وكان هو بطبعه قليل الكلام .. ولكن الذى ملك علينا هو رهبة المكان وهدؤه .. وكان روح المكان تتكلم أكثر من ساكنها. وإذ كنا تعلمنا من أقوال الآباء "إذا دخلت قلاية راهب لزيارته فلا تجلس معه طويلاً" .. إستأذنا فى الإنصراف، فقدم لنا السلم الصغير فصعدنا به وصعد معنا ليودعنا. ثم دلنا على مغارة مكشوفة ملاصقة للمغارة السابقة كان يجلس فيها بعض أوقات النهار للأكل.
أما عن حياة "رجل الصلاة" فنذكر منها: أنه فى 21 يونيو 1936 طلب أحد صغار المقاولين بمصر القديمة ويُدعى "زكى عبده المهندس" مقابلة الأستاذ "حسين راشد" مدير الآثار العربية بالإنابة، ليطلب منه السماح للراهب مينا البراموسى المتوحد بأن يسكن أحد أبراج الطواحين المهجورة على قمة جبل المقّطم فى مصر القديمة. كانت المنطقة الصحراوية الواقعة إلى جنوب القاهرة تحت اشراف مصلحة الآثار الإسلامية بإعتبارها منطقة أثرية. وفى الجزء الغربى من هذه المنطقة يرتفع تل صخرى يمتد من ضريح "خضرة الشريفة" إلى قرب مساكن مصر القديمة. وكان يوجد على أمتداد هذا التل نحو 50 برجاً من الحجر الجيرى، وهى عبارة عن طواحين متهدمة اقيمت فى عهد الحملة الفرنسية (1798 – 1801). وقد هُجرت هذه الطواحين بعد استعمالها فترة من الزمن وقد امتلأت بالحجارة التى انهارت لتهدم الأجزاء العليا منها، عندما نزع اصحابها الأعمدة الخشبية التى ترتكز عليها سقوفها بعد أن قرروا هجرها نهائياً. وقد انتُزعت منها كذلك الأبواب الخشبية، وتهدم سلمها، ولم يبق سوى فتحة واحدة تدل على أنه كان هناك مدخل فى هذا المكان. هذا هو الوصف الدقيق والصادق والأمين للمكان الذى اشتهى الناسك المتوحد القمص مينا أن يسكن فيه!! كان الأستاذ حسين راشد من المولعين بقراءة قصص حياة النساك كالقديس بولس الناسك وأنطونيوس ومكاريوس، لهذا وافق على وساطة المقاول زكى عبده ليسكن الراهب المتوحد فى هذه الأطلال الموحشة!! وفى الغد (22 يونيو 1936 – وهو يوافق تذكار تكريس كنيسة القديس مينا بمريوط) عاد المقاول وبصحبته الراهب وركب ثلاثتهم سيارة أوصلتهم إلى التل الذى تقوم عليه طواحين مصر القديمة.
وفى 23 يونيو 1936 وفى مكتب مدير دار الآثار العربية بالإنابة وقّع الراهب مينا البراموسى عقداً ينص فيه على "أن يدفع الراهب لخزينة الدولة نصف قرش فى الشهر ايجار هذه الطاحونة". استقر الأب مينا فى الطاحونة وصدرت الأوامر للخفراء بتزويد الراهب بنصيبه اليومى من الماء، كما أوصوا بأن يشتروا له ما يحتاج إليه من طعام. وكان على هؤلاء أن يذهبوا إلى منطقة الامام الشافعى الواقعة على بعد 2 كيلومتر من الطاحونة، كلما دعت الحاجة إلى شراء شئ. وكان الناسك المتواضع يكتفى بكسرة خبز يقتات بها أحياناً مع أعواد من الجرجير. أنتشر صيت هذا الراهب الناسك، فذهب لزيارته يعقوب بك مكارى أحد كبار موظفى محافظة القاهرة فوجده يصلى فى برجه بعد أن نظفه وبيضه ووضع له باباً وأعد فى الداخل هيكلاً متواضعاً للغاية كرسه للسيدة العذراء مريم مع أيقونة بسيطة وشمعدانين. وفى 28 أكتوبر 1941 غادر الطاحونة عندما قررت الإدارة العامة للآثار العربية إجراء حفائر علمية فى المنطقة، وكان فى وداعه أصدقاؤه المساكين والمعوزين الذين التفوا حوله. ومن الطاحونة توجه إلى كنيسة مارمينا بمصر القديمة – عند محطة الزهراء – وأقام بها. لقد وضع نصب عينيه مبدأ:"أما أنا فصلاة".
وهكذا كانت حياة الراهب مينا المتوحد الذى أختارته نعمة الله بالحقيقة لقيادة دفة الكنيسة عام 1959بحكمة روحية وتدبير حسن، فكان البابا كيرلس السادس "رجل الصلاة". أين البابا كيرلس الآن؟ أنه فى الفردوس يصلى.