رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مأزق الناتو.. هل يستسلم للتدمير التركى؟


فيما يخص الأزمة الليبية وملف غاز المتوسط، يعيش حلف «الناتو» أزمة يراها الجميع، ويكتوى على لهيب نيرانها الكثير من أعضائه، رغم الحرص على كتمان بعض مما يعانون منه، الأفدح فى الوقت الراهن أنهم يفتقدون بوصلة الخروج من هذا المأزق. بعض الأسئلة صار الحلف يبحث لها عن إجابات فى العواصم الصامتة، من نوع: هل يتدخل «الناتو» لتقريب وجهات النظر بين باريس وأنقرة، أم أنه سيؤثر النأى بنفسه عن هذا الخلاف كى لا يتورط فى مساندة طرف على حساب آخر؟ وأيضًا هل هناك أى مجال للنأى بالنفس فى ملفات حساسة، مثل ما هو قائم بين أثينا وأنقرة فى ملف غاز المتوسط، فى الوقت الذى يعتبرها كل طرف قضية مصيرية من أجل المحافظة على أمنه القومى؟ وهناك الكثير من الأسئلة التى لا تقل عن سابقتها فى الأهمية والخطورة، وتظل تركيا منفردة هى العامل المشترك الأعظم فى تلك الفوضى والحيرة التى ضربت جنبات الحلف العتيد.
فى إشارة إلى «مؤتمر برلين» للسلام فى ليبيا، الذى عقد فى بداية هذا العام، وجه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أصابع الاتهام إلى تركيا الإثنين الماضى، بسبب دعمها حكومة الوفاق، قائلًا بوضوح: إن تركيا تمارس «لعبة خطيرة» تتعارض مع كل ما وافقت عليه فى المحادثات الدولية. وقد يكون ماكرون هو الرئيس الوحيد الذى تحدث بتلك اللغة واستخدم تلك الألفاظ المباشرة التى تضع مكونات المشهد فعليًا على مائدة التشريح الكامل، حتى إنه أجاب عن استقباله خطاب الرئيس المصرى بذات الوضوح، فيما قال عنه: «إن قلق الرئيس المصرى له ما يبرره، لقد لاحظتم القلق المشروع للرئيس السيسى عندما يرى جنودًا يصلون إلى حدوده، خاصة وهو يعرف وجود قوات مدعومة من تركيا قرب الحدود المصرية».
وهو فى هذا الأمر لا يلقى بتبعات ما تقوم به تركيا على الرئيس المصرى، فأزمة «الناتو» الحقيقية الآن أن الرئيس الفرنسى ذكر أمام الجميع أن بلاده لن تترك تركيا لفترة طويلة تصدر مقاتلين سوريين إلى ليبيا فى ضوء ما تحت يديه من معلومات. ويظل ماكرون هو أول رئيس لدولة رئيسية فى «الناتو»، صاحب التصريح الصادم، وهو يصف ما يمر به الحلف حاليًا باعتبارها فترة «موت سريرى».
لو أن الأمر اقتصر على هذا المشهد ما بين فرنسا وتركيا فيما يخص ليبيا، أو حتى لو أضفنا له الأزمة التى تبدو أكثر تعقيدًا ما بين تركيا من جانب واليونان وقبرص من جانب آخر، لربما ظل الأمر كنوع من الخلافات البينية التى يمكن من خلال تدخلات الشركاء من أعضاء الحلف احتواؤها أو تفكيك مكوناتها.. لكن المشهد فى داخله عامر بالكثير من القضايا الأخرى التى تجعل العلاقة الملتبسة بين تركيا وحلف «الناتو» تزداد تعقيدًا، فى الوقت الذى لا تجد قيادات الحلف منهجية ثابتة يمكن التعاطى معها فى التعامل مع أنقرة. فهناك مثلًا خطة «النسر المدافع» التى وافقت تركيا عليها منذ العام الماضى، ومنذ التوقيع عليها وتركيا تواصل عرقلة الخطة الدفاعية للحلف من أجل بولندا ودول البلطيق، رغم أن الاتفاقية أبرمت بين الرئيس التركى أردوغان وقادة الحلف.
وليس بعيدًا زمنيًا عن تلك القضية، كان الخلاف الذى نشب فى نوفمبر الماضى بشأن الهجوم الذى شنته تركيا العام الماضى فى شمال سوريا، مؤشرًا على استمرار الانقسامات بين أنقرة وباريس وواشنطن، والأكثر دلالة على أن الخلافات التى تتعلق بالاستراتيجية الأوسع للحلف لم تحل بعد. بل إن أنقرة بدأت تمارس على الحلف نفس ما تقوم به بحق الدول الأوروبية، من أشكال وأنواع الابتزاز الذى يخرج فاضحًا وفى توقيتات مباغتة، وكما أخضعت أوروبا لنيران المهاجرين وفى مقابل ذلك تحصلت على الأموال والصمت السياسى الذى يخدم مصالحها، ذهبت أيضًا إلى «الناتو» بذات الآلية كى تربك أعماله وخططه المستقبلية. ففى قضية خطة الدفاع عن بولندا ودول البلطيق، أعلنت تركيا عن رفضها قبول هذه الخطط ما لم تعترف دول «الناتو» بحزبى «الاتحاد الديمقراطى» و«العمال الكردستانى»، كونهما كيانين إرهابيين.
«الناتو» يشعر بتقويض كبير لجهوده الدفاعية، فالخطة «النسر المدافع» وضعت من قبل قيادات الحلف من العسكريين بناءً على طلب تلك الدول، بعدما ضمت روسيا منطقة «القرم» من أوكرانيا فى عام ٢٠١٤. وهذا أمر لا علاقة له باستراتيجية تركيا فى سوريا، إنما هو أكثر ارتباطًا بالتأمين الدفاعى على كل حدود حلف شمال الأطلسى، رغم ذلك قام أردوغان بوضع العصا فى العجلة، وبدأ الهجوم على شمال سوريا، رغم اعتراض الدول الأعضاء التى ظنت أنها معنية بترتيب أوضاع الشمال السورى فيما بعد انسحاب الألف عسكرى الأمريكى. أو هكذا أوهم الرئيس ترامب الدول الأعضاء بالحلف، وأنهم سيكونون البديل للولايات المتحدة فى رسم خرائط النفوذ واستكمال محاربة التنظيمات الإرهابية «داعش» و«القاعدة» فى تلك المنطقة، ليستيقظ الأعضاء على واقع تركى يجرى العمل عليه قبل أى خطوة للحلف فى التقدم، لنيل هذه المهمة التى كانت ستَحرم أنقرة بالتأكيد من التوغل والاحتلال، الذى فرضته لاحقًا على أجزاء واسعة من تلك المنطقة. وهكذا تتجسم أزمة تركيا مع الحلف وتحولها طوال الوقت إلى حجر عثرة، لتنفيذ مهامه مع تفجر عدة ملفات أخفقت فيها أنقرة، وشكلت ما يشبه العقد المستعصية التى وجد الحلف نفسه أمام ضرورة التصدى لها وحلها.
هناك من يذهب إلى أن قلب مشكلة الحلف اليوم، هو العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة والرئيس التركى، وأنها هى السبب الرئيسى فى مأزقها الراهن. فمما ذكره «جون بولتون» ثالث مستشار للأمن القومى فى إدارة ترامب، فى كتابه الجديد المثير للجدل، أن ترامب وأردوغان اقتربا أكثر بعد أن وافق الرئيس التركى أخيرًا على إطلاق سراح القس الإنجيلى «أندرو برونسون» فى أكتوبر ٢٠١٨. بعد هذا التاريخ تحول ترامب فى القرارات التى لا يحتاج فيها إلى موافقة الكونجرس، إلى الموافقة على طلبات أردوغان فى الكثير من الملفات التى صارت تمثل مأزقًا حقيقيًا للكثيرين اليوم.
المفارقة أن تلك المعادلة تضرب حلف «الناتو» الذى تقوده الولايات المتحدة وتضعه فى «مأزق» وجودى حاد، لا يبدو أن هناك حلولًا أو مخارج له فى المدى المنظور على الأقل.