رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد مأمون الشناوى.. الإمام الثائر



وُلد محمد مأمون الشناوى فى ١٠ من أغسطس سنة ١٨٧٨م، وقد كان والده الشيخ السيد أحمد الشناوى عالِمًا جليلًا، مشهوُرًا بالتقوى والصَّلاح، مُتَفَقِّهًا فى الدين، وكان أحد الأعلام المشهورين فى مدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، ثم أقام فى بلدة «الزرقا» بمحافظة دمياط.
نشأ الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى فى رعاية والده، فحفظ القرآن الكريم، وأتمَّ حفظه فى سِنِّ الثانية عشرة من عُمْره، ثم أرسله والده إلى الأزهر، فعاش فى رعاية أخيه الأكبر الشيخ سيد الشناوى، الذى سبقه إلى الدراسة فى الأزهر بسنوات، وأخوه هذا أصبح بعد ذلك من كبار القُضاة الشرعيين، وقد ترقَّى فى سِلْكِ القضاء حتى أصبح رَئيسًا للمحكمة العليا الشرعية.
والشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى فى مستهل حياته الدراسية بالأزهر الشريف ضاق بأسلوب التعليم فيه، وبما أثقله من المتون والشروح والحواشى والتقريرات، وكاد ينقطع عن الدراسة ويترك التعليم ويعود إلى قريته ليعيش فلاَّحًا يزرع الأرض مع الزُّرَّاع، لولا أنَّ أخاه ووالده شجَّعاه على الدراسة، وساعداه فى فهم ما استعصى عليه من دروس، فعاد إلى الأزهر وواصل الدراسة بجد واجتهاد ومثابرة حتى أصبح موضع إعجاب شيوخه، وكان من المقربين إلى الإمام محمد عبده، صاحب حركة الإصلاح فى الأزهر الشريف، فرأى الإمام فيه من النجابة والذكاء ما جعلاه موضع إعجاب فشجعه ورعاه، كما كان من أبرز تلاميذ الشيخ الإمام أبى الفضل الجيزاوى الذى آثره برعايته وتقديره.
مضى الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى فى طريقه ينهل من علوم اللغة وعلوم الدين، ومن المتون والحواشى والتقريرات مما أهَّله لنيل شهادة العَالِمية، فتقدَّم للحصول عليها، ولكن المغرضين دَسُّوا له عند أعضاء اللجنة بالوشايات واتهموه بنقدهم، فتقدم الشيخ محمد مأمون الشناوى للجنة الامتحان ووقف يرد على أسئلتهم المعقدة، ويناقش أمامهم القضايا الصعبة الملتوية، وطال النقاش بينه وبين الشيوخ فى إصرارٍ منهم على تحديه، فتدخل الشيخ أبوالفضل الجيزاوى رئيس لجنة الممتحنين، والذى لم يكن على دراية بما يدور فى خلد أعضاء اللجنة، ودافع عن الشيخ محمد مأمون الشناوى، وقال: إنه يستحقُّ لقب عَالِم، بما أظهره أمامكم من عرض للقضايا، وتفنيد ما عرضتم من أسئلة، فنال الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى شهادة العَالِمية سنة ١٩٠٦م.
عُيِّن الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى- بعد تخرجه- فى معهد الإسكندرية الدينى، وفى سنة ١٩١٧م تَمَّ اختياره قاضيًا شرعيًّا، فاشتهر بالعلم الغزير والخلق الحميد، وتحرى العدالة، وسعة الأفق، فتمَّ اختياره إمَامًا للسراى الملكية، وكان يُرَاعَى فى هذا الاختيار أن يكون صاحبه موضع ثقة وتقدير واحترام، إلى جانب علمه الغزير وثقافته الواسعة.
وفى سنة ١٩٣٠م صدر قانون تنظيم الجامع الأزهر والمعاهد الدينية فى عهد الشيخ الإمام الظواهرى، وأُنْشِئَت الكُليات الأزهرية ورُوعِى فى اختيار شيوخها «عُمدائها» العلم الغزير، والخلق الحميد، والسُّمعة الطيبة، والشخصية القوية، فتمَّ اختيار الشيخ العلامة محمد مأمون الشناوى شَيْخًا «عميدًا» لكلية الشريعة، واستطاع الشيخ أن ينظم كليته وأن يقودها قيادة رشيدة، وفى سنة ١٩٣٤م نال عضوية جماعة كبار العلماء، وفى سنة ١٩٤٤م عُيِّنَ وكيلًا للأزهر، وتولَّى منصب رئاسة لجنة الفتوى بالأزهر.
فى سنة ١٩٤٨م عُين شيخًا للأزهر فوسع من دائرة البعثات للعالم الإسلامى، وأرسل النوابغ لإنجلترا لتعلم اللغة الإنجليزية توطئة لإيفادهم إلى البلاد الإسلامية التى تتخاطب بالإنجليزية، كما أفسح المجال أمام الوافدين إلى الأزهر من طلاب البعوث ويسر لهم الإقامة والدراسة.
كان الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى كريم الأخلاق، نبيل النفس، جليل السَّمت، رائع المنظر فى جلالة وهيبة، صالحًا، ورِعًا، تَقِيًّا، ذا شخصِيَّة قوية، يتمسك بالحق ويُضَحِّى فى سبيله بكل ما يملك، وكان موضع الحبِّ من الجميع يُجِلُّونه ويحترمونه، وكان عالِمًا كبيرًا، واسع الثقافة، غزير العلم، يرجع إليه الجميع فيما أشكل عليهم من دقائق العلوم.
اختط الشيخ للمعاهد الدينية خطة تغطى عواصم الأقاليم، حيث افتتحت فى عهده خمسة معاهد جديدة، ووصل إلى اتفاق مع وزارة المعارف، ليكون الدين الإسلامى مادة أساسية بالمدارس العمومية، على أن يتولى تدريسها خريجو الأزهر.
لم يعثر له على مؤلفات، ولعل جهوده فى أداء ما عليه من أعمال شغلته عن التأليف، ولا شك فى أنه ألَّف كتابًا نال به عضوية جماعة كبار العلماء؛ لأن العضوية لا تُنال إلا بمؤلف قيم يراه الأعضاء جديرًا بضم صاحبه إلى الجماعة.
لما توفى الشيخ الإمام مصطفى عبدالرازق صدر قرار، مساء الأحد الموافق ١٣ من يناير سنة ١٩٤٨م، بتولية الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى مشيخة الأزهر الشريف.
وقد سعد العلماء بتولى الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى مشيخة الأزهر، فعمل على أن يكون عند حسن ظنهم- كما عهدوه- فأصلح شئون الأزهر، ورفع من شأنه، وقضى على ما كان فيه من عصبيات، ومنع الميول الحزبية من الانتشار داخله، وسعى للتآخى بين الطلبة فربطتهم الصلات القوية، وبات الأزهر شعلة متأججة بنشاط الشيخ وحيويته فارتفعت ميزانيته إلى أكثر من مليون جنيه فى ذلك الوقت، فأوفد البعوث العلمية إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامى، لنشر تعاليم الإسلام وتوضيح علومه وإظهار حضارته، كما أرسل البعوث التعليمية إلى إنجلترا لتعلم اللغة الإنجليزية، ثم أرسلها إلى العديد من البلدان الإسلامية التى تجيد التحدث بها، وفتح أبواب الأزهر أمام الطلبة الوافدين من العواصم الإسلامية حتى زادوا على ألفى طالب فجهز لهم المساكن، وأعدَّ لهم أماكن الدراسة.
أسهم فى الحركة الوطنية سنة ١٩١٩ بقلمه ولسانه، وظل الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى يواصل عمله من أجل إعلاء شأن الأزهر، فجدد المبانى، وشاد أخرى، ونظم العلوم، ونشط فى توجيه أبنائه، فأخذ ذلك كل وقته لدرجة جعلته لا يتمكن من وضع المؤلفات وكتابة الأبحاث إلا القليل النادر الذى لم تذكر عنه المصادر التى ترجمت له سوى إشارة بعيدة لا تفيد، توفى الشيخ الإمام محمد مأمون الشناوى صباح يوم الأحد الموافق ٣ من سبتمبر سنة ١٩٥٠م، بعد أن صنع رجالًا وعلماء حملوا من بعده مشاعل النور إلى كل أنحاء العالم، كان من أبرزهم نجله العالم الجليل الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الشناوى، منح اسمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى بمناسبة الاحتفال بالعيد الألفى للأزهر.