رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحرك بقوة لتملأ كل هذا الفراغ



يقودنا الحديث عن أوقات الفراغ للبحث عن مفهوم الفراغ، وقد أثار هذا المفهوم الفلاسفة منذ مئات السنين، فالفيلسوف أرسطو كان يرفض مفهوم الفراغ، ويرى أن هذه الأفكار موجودة فى العقل لكنها ليست موجودة فى الواقع.
مع تطور الإنسانية تم وضع نظريات عديدة لعل أهمها ما تقول إنه «لا وجود للفراغ» وإن «الطبيعة لا تقبل الفراغ»، فمفهوم الفراغ غير موجود فيزيائيًا على الأرض، فالفيزياء الحديثة تقول عن الفراغ إنه غير موجود فعليًا، فالمادة وحسب القياسات الحديثة لا تنعدم أبدًا، صحيح أن كثافتها تقل إلى حد كبير ولكنها لا تنعدم أبدًا، حتى فى الفضاء الخارجى بين المجرات المختلفة فإنها لا تختفى، إذ بمجرد غياب عنصر يحل مكانه عنصر آخر، والكوب الذى نراه فارغًا يكون فعليًا مملوءًا بالهواء قبل أن نضع فيه الماء أو أى سائل آخر، لكن حتى مع تفريغ الكوب من الهواء يفترض العلماء أنه فى قلب الفراغ تتولد مادة افتراضية للحظات بسيطة تم تتلاشى سريعًا مرة أخرى، والمقصود بتعبير مادة افتراضية أنها مادة عادية، كالتى نعرفها فى حياتنا اليومية تمامًا، لكن هذه المادة لا يستطيع العلماء أن يستخلصوها فى المعمل، ولا أن يروها، ولا أن يجروا تجاربهم عليها، لكنهم فقط يستطيعون إدراكها عن طريق آثارها وتأثيراتها.
والعجيب أن كمية الطاقة الموجودة فى الفراغ لا نهائية، فكمية الطاقة الموجودة فى الفراغ الموجود تحت فتحة الباب فى غرفتنا تفوق كل الطاقة التى يستطيع العلماء توليدها من كل محطات التوليد النووية فوق الكرة الأرضية، ووفقًا لعلم فيزياء الكم فإنّ الفراغ الذى لا يحوى شيئًا هو فى الحقيقة بحر هادر من الفاعلية والنشاط، وقد أثبت عالم الفيزياء الهولندى، هندريك كازيمير، صحة هذه الفرضية فى عام ١٩٤٨.
ويفسر بعض العلماء «قوة كازيمير» بأنها القوة التنافرية فى الكون التى تعمل على تمدد الكون، ويسمّون «طاقة الفراغ» الناتجة من تلك القوة بأنها الطاقة المظلمة، وما يدعو للدهشة أن هذه الطاقة العدمية أو المتولدة من الفراغ تكوِّن ٧٠٪ من مركبات الكون الأساسية، فى حين لا تشكل المادة العادية التى يتكون منها كوكب الأرض سوى ٥٪ فقط من مركبات الكون، فنحن مصنوعون من مكوِّن جانبى هامشى صغير من مركبات الكون، فكوكبنا ما هو إلا كوكب صغير تابع للمجموعة الشمسية، وشمسنا هى نجم عادى مثل آلاف النجوم تدور فى فلك مجرة من مليارات المجرات، فالإنسان ليس محور الكون، وكوكب الأرض الذى نعيش عليه مجرد نقطة فى تصميم لا نعرف منتهاه.
لا يقتصر مفهوم نفى الفراغ على علم الفيزياء، بل كل مناحى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، سواء كان الأمر يتعلق بمناطق خالية أو أدوار مفقودة فى إقليم أو وظائف متصدعة داخل دول، فهناك من يتحرك دائمًا، على الفور، لملء الفراغ، كواقع لا يمكن تجنبه، وما تشهده المنطقة العربية من صراعات وتدخلات من قوى إقليمية، كتدخل تركيا فى ليبيا، وتدخل إسرائيل فى إفريقيا خاصة إثيوبيا، ما هو إلا تطبيق لنظرية الفراغ، الناتج عن ضعف الدور المصرى فى المنطقة الحيوية لها بسبب ما تعرضت له الدولة المصرية من إنهاك واستنزاف فى الفترات الأخيرة، وفى ظل عدم وجود تكتلات عربية ذات مصالح استراتيجية، فرغم التوافق المصرى السعودى الإماراتى إلا أنه غير قادر على سد الفراغ الذى تخلقه أمريكا وحلفاؤها فى المنطقة كى تتمكن من مزيد من تفتيت المنطقة فى سوريا واليمن وليبيا وغيرها.
والتحدى الذى يواجهنا هو أن نتحرك بقوة كى نملأ هذا الفراغ، وألا نترك الساحة لأنها لن تظل فارغة، بل أصبح هناك تحد حقيقى بوجود كل هذه القوى اللاعبة فى المنطقة، وهذا التحرك لن يكون دون ثمن، وعلينا أن نكون مؤهلين لذلك، لأن عدم التحرك، والتغاضى عن الفراغ ستكون كلفتهما أكبر، ليس على الحدود ولكن على الداخل أيضًا، وما على الدولة المصرية إلا العمل على تقليل الخسائر.
لكِ الله يا مصر فى هذه اللحظة التى تتكالب عليك كل القوى حتى الفراغ.