رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وإثيوبيا.. ملاحظات تاريخية


أعادت إلى ذهنى الأحداث المتصاعدة حاليًا بين مصر وإثيوبيا وقائع التاريخ الطويل الذى يربط مصر بإفريقيا على وجه العموم، وإثيوبيا على وجه الخصوص، وعندما يقول هيرودوت إن «مصر هى هبة النيل»، يرد عليه المؤرخون المصريون «ولكن النيل ينبع من قلب إفريقيا ويصب فى البحر المتوسط ولا نجد إلا مصر واحدة!»، فمصر هبة النيل وهبة المصريين أيضًا.
لكن التاريخ يقول لنا أيضًا إن هناك بقعة حضارية ودولة ممتدة عابرة للقرون نشأت فى شرق إفريقيا وفى منابع النيل- النيل الأزرق- هى «بلاد الحبشة»، وهى دولة عرفها المصرى القديم منذ اجتيازه البحر الأحمر وصولًا إلى مضيق باب المندب للسيطرة على هذا البحر المهم، وهى الرحلة الشهيرة بـ«رحلة بلاد بُنت». وهى بلاد الحبشة التى عرفها المسلمون من خلال الهجرة الأولى لها لصحابة رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، حتى قبل هجرته إلى المدينة المنورة، والتى وصف الرسول «صلى الله عليه وسلم» ملكها قائلًا: «إن فيها ملكٌ مؤمن يكرم العباد». والشىء بالشىء يُذكر، ولا سيما فى مسألة الأديان، إذ كانت مصر هى بوابة دخول المسيحية إلى إفريقيا وإلى الحبشة على وجه الخصوص، حتى أصبحت كنيسة إثيوبيا تابعة للكنيسة القبطية حتى الخمسينيات من القرن العشرين، وكان من المعتاد أن يُرسل بابا الإسكندرية مطرانًا قبطيًا ليرأس الكنيسة الإثيوبية هناك ويخضع له بالولاء الإثيوبيون، ويُجلّه ويبجله إمبراطور الحبشة. كما اعتاد مسلمو الحبشة على المجىء إلى الأزهر الشريف لتلقى العلم فى أروقته، إذ اعتُبر الأزهر بحق منارة الإسلام واللغة العربية فى شرق إفريقيا بأكمله، حتى إن الجد الأكبر لمؤرخنا المصرى الشهير «عبدالرحمن الجبرتى» أتى نازحًا من إقليم «جبرت» فى شرق إفريقيا ليتعلم فى الأزهر ويتزوج ويستقر فى مصر، وينجب لنا من نسله العلامة «عبدالرحمن الجبرتى».
كما أرسلت مصر العديد من البعثات التعليمية إلى الحبشة، بل وكانت المدارس المصرية هى مدارس النخبة الإثيوبية فى مواجهة مدارس الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية التى حاولت كثيرًا، ونجحت أخيرًا، فى فرض نفوذها الثقافى والدينى على إثيوبيا، وتقليص نفوذ الكنيسة القبطية هناك.
ونتذكر جميعًا العلاقة الوثيقة التى ربطت بين الزعيمين «جمال عبدالناصر» والإمبراطور «هيلاسلاسى» إمبراطور إثيوبيا، إذ لعب الزعيمان أدوارًا مهمة فى إنشاء ودعم منظمة الوحدة الإفريقية.
كل هذه الوقائع تصب فى صالح حالة المصالح المشتركة بين مصر وإثيوبيا، ولكن وللأسف لم تخلُ طبيعة العلاقة من طابع تنافسى بل وعدائى فى بعض الأحيان، حيث عملت دولة البرتغال، بعد طرد المسلمين من الأندلس، على قطع طرق التجارة الشرقية والقضاء على سيطرة القوى الإسلامية عليها، من هنا كانت رحلة «فاسكو دى جاما» لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والاتصال بمملكة القديس يوحنا «الحبشة» وتطويق المياه الجنوبية الإسلامية، مما شكل بالفعل الإرهاصات التاريخية لحركة الاستعمار الأوروبى للعالم العربى.
وكثيرًا ما هددت الحبشة مصر بمحاولة قطع وصول مياه النيل إليها، حيث نجد أمثلة تاريخية على ذلك فى عهد سلاطين المماليك فى مصر، وفى العصر الحديث حرص الخديو إسماعيل على اكتشاف منابع النيل- وهو سر الحياة فى مصر- ولذلك أرسل العديد من البعثات الكشفية لمنابع النيل، هذا فضلًا عن إدراكه ضرورة مد النفوذ المصرى على منابع النيلين الأزرق والأبيض، ولذلك أرسل إسماعيل العديد من الجيوش التى استطاعت بحق تكوين ما أُطلق عليه «الإمبراطورية المصرية الإفريقية»، حيث امتدت أملاك مصر حتى خط الاستواء، فضلًا عن سواحل شرق إفريقيا ولا سيما المطل منها على البحر الأحمر. وكان هدف إسماعيل من ذلك تأمين منابع النيل، وفى نفس الوقت تأمين قناة السويس حتى لا يتحكم فيها من يُسيطر على المنفذ الجنوبى للبحر الأحمر «باب المندب»، لذلك اصطدمت الجيوش المصرية مع الجيوش الحبشية فى عصر إسماعيل فى معركة تكسير عظام، خسر فيها كل من البلدين خسائر فادحة جعلت منهما بعد ذلك فريسة سانحة أمام الأطماع الاستعمارية فيهما.
ولا أدل على حالة التنافس بين مصر وإثيوبيا فى إفريقيا من هذا المصطلح التاريخى الذى استبدلت به الحبشة اسمها إلى إثيوبيا، والذى يعنى فعليًا الحلم فى امتداد الأملاك الحبشية من شرق إفريقيا وحتى جنوب مصر، مما يشكل خطرًا على حدود مصر الجنوبية.
ومع كل هذه الأوضاع الحالية وعلى رأسها خطر أزمة مياه النيل هل تستطيع مصر اللعب بسيف المعز وذهبه؟! فالجيش المصرى كان، ولا يزال، أقوى جيش فى إفريقيا، كما يمكن لمصر استعادة قوتها الناعمة من جديد من خلال دور الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، فضلًا عن إمكانات مدرسة الدبلوماسية المصرية.
على أى حال نعتقد أنه آن الأوان، وعلى ضوء أجراس الخطر التى دقها «سد النهضة»، إلى إدراك أهمية عودة الوجود المصرى فى إفريقيا من جديد.