رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغنوشى «2».. من الناصرية إلى الإخوانية


خطوة قاتلة تنم عن ديكتاتورية تشى بأن الرجل البالغ من العمر ٧٨ عامًا، لا يزال متمسكًا برئاسة «حركة النهضة» الإخوانية فى تونس خلال المرحلة المقبلة، رغم أن رجلًا بسنه لن يكون قادرًا على تحمل مسئولية إدارة الحركة ورئاسة البرلمان، علاوة على أن اللوائح الداخلية تفرض عليه تسليم القيادة.. أما القرار، فهو إعلان راشد الغنوشى حل المكتب التنفيذى لحركة النهضة، والذى يعتبر أعلى هيئة تنفيذية فيها، وهو قرار لم يكن أبدًا اعتباطيًا ولا مفاجئًا، كما يعتقد البعض، وإنما طبخه الغنوشى على نارٍ هادئة.. وبهذا الحل، تتصاعد نيران الصراعات الداخلية بالحركة، مؤذنة بصفحة جديدة من الخلافات والانشقاقات التى لم تهدأ وتيرتها منذ أشهر، منذ بدء استقالة بعض أعضاء الحركة على خلفية تنامى ملفات الفساد المالى المرتبطة بعائلة الغنوشى، وخاصة ابنه معاذ وصهره رفيق عبدالسلام.
يتحدث مراقبون عن خلاف داخل الحركة نفسها حول سياسات الغنوشى وإمكانية تمديد فترة رئاسته لها، إذ ينص قانونها الداخلى على أن يتسلم رئيسها منصبه لدورتين فقط، وهو يتولى رئاسة الحزب منذ عام ١٩٩١، وتنتهى ولايته العام الحالى.. ويرى هؤلاء أن «الغنوشى يعتبر نفسه الحاكم الوحيد والماسك بقبضة الحركة التى يترأسها لسنوات طوال، أى أنه يتعامل معها على أنها ملكية عائلية وليست حزبًا»، فزعيم إخوان تونس لن يترك أبدًا مقاليد الحركة لشخص من خارج عائلته، وهذا ما يفسر ما ذهب إليه كثيرون من أنه يتأهب لتسليم مقاليد النفوذ إلى نجله مُعاذ، مع أن الحركة الإخوانية تعانى منذ فترة طويلة من اهتراء تنظيمى، فضلًا عن تراجع شعبيتها بسبب المحصلة الهزيلة لحكمها منذ سنوات، وأيضًا جراء انفراد الغنوشى بالقرار داخلها، وإقصاء قيادات منها شكلت خطرًا على عرش زعيمها.. فمن أين جاء هذا الرجل الداهية؟
اسمه الحقيقى راشد الخريجى.. ولد فى ٢٢ يونيو ١٩٤١، فى قرية حامة قابس، أو الحامة، كما هو شائع فى الجنوب التونسى، درس المرحلة الابتدائية فى بلدته، ثم انتقل إلى بلدة مثيلبة، حيث نال الشهادة الأهلية المتوسطة، ومن ثم درس فى المدرسة الخالدونية فى العاصمة، وبعد ثلاث سنوات حصل على الثانوية العامة من المدرسة التابعة لجامعة الزيتونة.. عمل فى بداية حياته معلمًا فى مدينة قفصة حتى سنة ١٩٦٤، وبعدها سافر إلى دمشق ليدرس الفلسفة، حيث حصل على إجازة فى الفلسفة سنة ١٩٦٨، وفى دمشق تسنى له قراءة النتاجات الفكرية للإخوان المسلمين، وتحديدًا ما كتبه سيد قطب وأبوالأعلى المودودى، أمير الجماعة الإسلامية فى باكستان حول الحاكمية والدولة الإسلامية، وبعد إتمام دراسته فى دمشق، سافر الغنوشى للدراسة فى جامعة السوربون بفرنسا، وهناك بدأ نشاطه الإسلامى وسط الطلبة العرب والمسلمين، كما تعرف على جماعة الدعوة والتبليغ، ونشط معها فى أوساط العمال المغاربة، حتى عاد إلى تونس سنة ١٩٦٩، وباشر التدريس فى ثانويات تونس العاصمة وحمام الأنف والقيروان، وفى هذه المرحلة كان صعود البورقيبية والتغريب كبيرًا فى الشارع التونسى.
لم يكن الغنوشى أو غيره من قادة الحركة الإسلامية الصاعدة فى أواخر السبعينيات إلا جزءًا من الأيديولوجية العربية والإسلامية، التى تكونت فى مواجهة الثقافة والهيمنة الغربية، وزاد من تمكنها صعود الخطاب الثورى العربى طوال فترة الخمسينيات والستينيات، حيث كان الإعجاب بجمال عبدالناصر رديفًا للإعجاب بسيد قطب، وربما فاقه فى كثير من الأحيان.. وهنا نشير إلى أن الغنوشى قدِم إلى القاهرة فى أكتوبر١٩٦٤، والتحق بكلية الزراعة فى جامعة القاهرة، ودرس بها حوالى ثلاثة أشهر فقط، قبل أن يصدر قرار الرئيس عبدالناصر بتسليم الطلبة التونسيين لسفارتهم فى مصر لإرجاعهم إلى بلادهم، بسبب الخلاف الذى بينه وبين الحبيب بورقيبة.. ومع ذلك فإن الغنوشى كان معجبًا فى بواكيره بالتجارب الثورية القومية التى جسدها عبدالناصر، وهو ما استمر فترة، حتى لقائه بعبدالفتاح مورو، ذى المرجعية الإسلامية الزيتونية.
وتعد علاقة الغنوشى بمورو لحظة مهمة فى سيرته الشخصية، حيث نشط كل منهما فى دعوة الشباب، من خلال المقاهى والحانات والمساجد والمدارس والجامعات، ويعتبر لقاؤهما الفاتحة الحقيقية التى انتهت بتأسيس الحركة الإسلامية التونسية فيما بعد، ممثلة فى الجماعة الإسلامية، التى بدأت إرهاصاتها عام ١٩٧٠، قبل أن يشرع الغنوشى فى كتابة المقالات بجريدة الصباح اليومية، وبمجلة جوهر الإسلام، لنقل أفكاره إلى أكبر شريحة ممكنة من المثقفين، ثم بمجلتى المجتمع والمعرفة، اللتين كانتا المنبر الفعلى للحركة الإسلامية، وتخصصتا فى نقد الفكر اليسارى والعلمانى، كما كانت هذه العلاقة فصلًا مهمًا فى تحول الغنوشى عن إعجابه بالفكر القومى والعلمانى نحو التوجه الإسلامى، وهو التحول الذى تأكد بعد عودته لتونس، فقد كان الحبيب بورقيبة من أكثر الزعماء صراحة فى إعجابه بالثقافة الغربية، وكان أحيانًا يعبر عن استيائه من الثقافة العربية، التى تشتمل- ضمنًا- على بعض العقائد الإسلامية والدينية، وهو ما جعل الحركة الإسلامية هناك تنشط فى مواجهة أفكاره.
يرى الغنوشى أن «التخلف الذى تردى فيه المسلمون منذ قرون، وأسلمهم إلى الضعف وغلبة الأمم عليهم، وسبقها لهم فى مجالات العلوم ونظم الحياة، يفرض إعادة التفكير فى الإسلام باعتباره الشرط الضرورى لكل تجديد وتطور فى حياة المسلمين.. وفى هذا الصدد يكثر فى أدبيات المصلحين منذ قرنين على الأقل، الاستئناس بالحديث الشهير الذى بشر فيه صاحب الدعوة، عليه الصلاة والسلام، «بأن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها»، وهنا يُفسر «المُجدد» فى هذا الحديث بأنه «جماعة» أو «مذهب» أو «مدرسة»، كما يمكن أن يكون «فردًا»، والتطبيق الأعرق لهذا «المُجدد»- فى رأى الغنوشى- هو اتجاه السلفية الجهادية، الذى مثله محمد بن عبدالوهاب فى السعودية، ودعوة ولى الله الدهلوى فى الهند، ويضم إليه المهدى السودانى، وتيارات الإخوان المسلمين، وآخرين غيرهم.. وهنا نُلاحظ أن الغنوشى، الذى كتب هذه الورقة عام ٢٠٠٢، لا يُفرق بين السلفية العلمية والسلفية الجهادية والسلفية الإصلاحية، ولكن يدمج الجميع فى تيار واحد، صار الأشهر والمُعبر عنه- فى نظره- هو «تنظيم القاعدة»!.
وهو يرى أن مهمة الحركة الإسلامية الآن، هى إقامة مجتمع أهلى إسلامى، عبر مبادرات أفراده بإقامة مؤسساته، وهو يثنى على تجربة محمد خاتمى فى إيران، حين جعل مشروعه للحكم قائمًا على إقامة مجتمع مدنى إسلامى فى ظل سلطة القانون، أى سلطة الشريعة، وهو ما ينقل مركز الثقل من الحاكم إلى المحكوم، أى أن المقدس هو الأفراد والجماعات، وليس غيرهم!!.. ويرُد الغنوشى انحدار أو تراجع المجتمع الأهلى الإسلامى إلى «تمكن الغزو الغربى من الإجهاز على نمط الدولة السُلطانية، التى ورثت الخلافة، بدءًا بتنحية سلطان الشريعة، وإبدالها بالقانون الغربى، كما حصل فى معاهدة لوزان، التى فرضت على دولة تركيا التخلى عن الشريعة الإسلامية»!.
هذا غيض من فيض، عن سيرة وأفكار شيطان الإخوان فى تونس، الذى هرب خارج البلاد لواحد وعشرين عامًا، فرارًا من أحكام بالسجن المؤبد، بسبب تورطه فى أعمال إرهابية، منها حرق عدة مراكز تعليمية وكيانات سياحية وخطف مسئولين.. وحتى بعد عودته إلى تونس عام ٢٠١١، لم يتورع الجهاز السرى لجماعته عن اغتيال عدد من معارضيه، ومنهم القياديون، اليسارى شكرى بلعيد، والقومى محمد البراهمى عام ٢٠١٣.. وهو حديث الأسبوع القادم.. حفظ الله مصر وسائر بلادنا.. آمين.