رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوقات الفراغ بين البناء والهدم


هل لديك وقت فراغ؟
هل لديك ساعات تمر دون عمل محدد، أو هدف معين؟
منذ وجد الإنسان على الأرض ولديه دائمًا أوقات فراغ، خاصة مع خضوع حياة الإنسان لمظاهر الطبيعة، فارتبط العمل والكد بالنهار، وارتبط الفراغ والدعة والراحة بالليل. وطوال قرون كان ينظر لوقت الفراغ على أنه وقت ضائع فيما لا يفيد.
لكن مع القرن العشرين ومع تطور منظومة العمل ووضع وتحديد ساعات للعمل أو الدراسة والاهتمام بتنظيم الوقت، واعتبار الوقت موردًا محدودًا إذا نضب لا يتجدد فكل ساعة تمضى لا يمكن استعادتها- اهتم العلماء بوضع تعريفات لوقت الفراغ، ورأوا أنه «الوقت الحر المتبقى بعد الانتهاء من أداء النشاطات الأساسية للفرد»، أى أنه الوقت الباقى من الأربع والعشرين ساعة بعد تأدية العمل، وإشباع الحاجات البيولوجية والفسيولوجية كالنوم والمأكل والمشرب والعناية بالصحة الشخصية.
وإدركًا لأهمية استغلال وقت الفراغ بدأت الدراسات الاجتماعية مع نهاية القرن التاسع عشر تركز على موضوع وقت الفراغ، فصدر فى عام ١٨٩٩ كتاب نظرية الطبقة الغنية «THEORY OF THE LEISURE CLASS» لمؤلفه عالم الاجتماع والاقتصاد الأمريكى تورستين بوند فيبلين «١٨٥٧- ١٩٢٩» الذى ربط فيه بين طريقة التعامل مع الفراغ والطبقة الاجتماعية والمكانة المهنية للفرد، وميّز بين الطبقات المكتفية اقتصاديًا التى تنفرد بأقصى استغلال ممكن لوقت الفراغ وبين الطبقات الأخرى التى تقع دون هذه الطبقة.
وقد ظلت آراء «فيبلين» سائدة رغم تغير الكثير من النظم الاجتماعية، بما فيها الفراغ، كما أجمعت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية على الارتباط النسبى بين المستويات الطبقية وبين ممارسة أى نوع من نشاطات الفراغ.
ثم تتابعت الكتابات، ثم أخذ الاهتمام به يأخذ بعدًا دوليًا بصدور «الإعلان العالمى لحقوق الإنسان» فى عام ١٩٤٨، إذ نصت المادة «٢٤» منه على أن «لكل شخص حق فى الراحة وأوقات الفراغ».
تلا ذلك صدور «ميثاق الفراغ الدولى» فى الأول من يونيو ١٩٧٠ الذى ينص على:
مادة «١»: لكل إنسان الحق فى أن يكون له وقت حر يتضمن هذا الحق تحديد عدد ساعات عمله ومنحه إجازة منظمة مدفوعة الأجر.
مادة «٢»: إن من حق الفرد الاستمتاع بوقت الفراغ بحرية تامة ويعتبر حقًا مطلقًا تجب حمايته.
مادة «٣»: لكل فرد الحق فى استخدام منشآت أوقات الفراغ المخصصة للناس.
مادة «٤»: من حق كل فرد أن تهيأ له سبل ممارسة الأنشطة الترويحية فى أوقات فراغه.
مادة «٥»: يجب أن تكون مهمة الهيئات المسئولة من مخططين ومهندسين وهيئات خاصة العمل على توفير الإمكانات اللازمة لممارسة الأنشطة الترويحية.
مادة «٦»: لكل فرد الحق فى تعلم واكتساب المهارات الترويحية حتى يتمكن من استثمار وقت فراغه.
مادة «٧»: لا بد أن يكون هناك تنسيق بين جميع الهيئات العاملة فى جميع أوقات الفراغ.
فوقت الفراغ حاليًا هو الوقت الذى يمكنك أن تتحرر فيه من مسئولياتك التعاقدية تجاه الآخرين، وتلتفت فيه لمسئولياتك الروحية والبدنية تجاه نفسك والعالم، وكلما كانت الشعوب قادرة على الاستفادة من أوقات فراغها وكلما وفرت الدولة لمواطنيها كل السبل التى تساعدهم على تمضية وقت الفراغ فيما ينفع، دل ذلك على مدى تقدم هذه الدولة.
ترى كيف تقضون أوقات فراغكم؟ هل كانت لديك رغبة فى تعلم لغة، فن، أشغال فنية، مهارة يدوية،... ولم يسعفك الوقت؟، عليك أن تبدأ بتحديد ما لك من وقت حر والاستفادة منه، والتحرر من الاستهلاك السلبى الذى يجعلنا مجرد متفرجين على المباريات والمسابقات وحفلات الغناء، ومقاطع الفيديو على اليوتيوب دون أن نلعب أو نتسابق أو نغنى، أو... وتصبح تمضية أوقات الفراغ نوعًا من تعميق اغتراب الإنسان عن نفسه، وإحياءً لمزيد من النزعات الاستهلاكية المظهرية، ووأدًا للوقت الذى لا يعود أبدًا.
لا تتعللوا بالحظر والحالة «كورونا»، فهى فرصة ذهبية لاختبار القدرات الذاتية، والتواصل مع الذات بالتأمل والتفكير، والقيام بكل ما يبنى لا ما يهدم.