رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبوسنجة طويلة.. قصة الترام فى مصر



ربما لم تعرف الأجيال الشابة الترام أو «الترامواى»، ومن الصعب على هؤلاء تصور أن الترام كان محور الحياة اليومية فى القاهرة والإسكندرية، وهناك جيل رأى الأيام الأخيرة للترام فى القاهرة، وارتبط الترام فى أذهانهم بالبطء وتعثر حركة المرور بسببه، وأنه من مخلفات القرن التاسع عشر. لكن لا يعلم هؤلاء أن ظهور الترام فى الإسكندرية والقاهرة كان طفرة كبيرة فى تاريخ المدينتين، وأن الناس خرجوا ليروا فى انبهار شديد هذا العفريت الجديد الذى ينهب الأرض نهبًا، وأطلقوا عليه «الكهربائية».
عرفت الإسكندرية أولًا- وقبل القاهرة- الترام بفضل الجاليات الأجنبية بها، واتساع حركة العمران بها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وأصبح الترام سمة أساسية للمدينة، ربما حتى وقتٍ قريب.
وبعد ذلك دخل الترام إلى القاهرة، ويحدثنا محمد سيد كيلانى عن هذا اليوم المشهود الذى سار فيه الترام فى شوارع القاهرة: «فى أول أغسطس ١٨٩٦ أجرت الشركة البلجيكية حفلة تجريبية لتسيير أول عربة كهربائية، إذ ركب حسين فخرى باشا ناظر الأشغال العمومية ومعه كبار موظفى النظارة عربة أقلتهم من بولاق، مرورًا بميدان العتبة إلى القلعة، وقد اصطف الناس على الجانبين ألوفًا، ليشاهدوا أول مركبة سارت فى العاصمة بقوة الكهرباء، والأولاد يركضون وراءها مئات وهم يصرخون: العفريت... العفريت».
ومنذ ذلك اليوم تغير تاريخ المدينة، وأصبح الترام أساس الحياة اليومية فيها، إذ ترتب على وجوده ظهور أكبر حركة عمران حضرى شهدتها المدينة حتى ذلك الوقت، ونقصد بها ظهور الضواحى الجديدة شبرا وروض الفرج، وهليوبوليس أو مصر الجديدة. ويُجمِع مؤرخو القاهرة على الدور المهم الذى لعبه مد خطوط الترام من وسط المدينة إلى شبرا وروض الفرج فى تنشيط حركة العمران فى شمال القاهرة، وظهور رئة جديدة للمدينة، بحيث أصبحت شبرا حى الترام بحق. وفى شرق القاهرة وبفضل مد الترام الذى عُرف بعد ذلك بـ«مترو مصر الجديدة»، حدث التحول الكبير فى تاريخ القاهرة، إذ لأول مرة فى تاريخ القاهرة يتجه المصرى إلى سكنى «الصحراء»، إذ كان المصرى لا يفضل سكنى الصحراء ولا الجبال، ورويدًا رويدًا نمت مصر الجديدة والتصقت بالقاهرة تمامًا.
وترتب على ظهور الترام العديد من المتغيرات المجتمعية والاقتصادية، إذ تعود نشأة مسارح روض الفرج إلى ربطها بوسط البلد بالترام، كما ساعد الترام واختلاط الناس على سرعة ظهور رأى عام، كما ظهرت لوحات الإعلانات على طول طريق شريط الترام، وظهر الترام بقوة فى أثناء المظاهرات السياسية وتجمعها فى منطقة وسط البلد، بل شهد عام ١٩٠٨ إضراب عمال الترام نفسه، وجلوس العمال على شريط الترام، وقطع الطريق. وحتى بالنسبة للرياضة، لن نتحدث فقط عن أهمية الترام فى نقل المشجعين إلى الأندية الرياضية، وإنما ربما لا تعرف الأجيال الشابة أنه كان هناك نادٍ رياضى اسمه «نادى الترام»، وكان هذا النادى يهزم أحيانًا الزمالك والأهلى!
ويجسد الفيلم المهم والمتميز «حياة أو موت» الذى ظهر فى عام ١٩٥٤ وقام ببطولته يوسف وهبى «حكمدار العاصمة»، وقصة الطفلة الصغيرة التى ذهبت إلى ميدان العتبة لشراء الدواء لأبيها، يمثل الفيلم أهمية ومحورية الترام فى الحياة اليومية لمدينة القاهرة، وتخرج الكاميرا لتصور ببراعة حركة الترام ورحلة الطفلة مع الدواء، وحياة مدينة فى يوم مزدحم هو يوم الوقفة، لينتهى الفيلم نهاية سعيدة بإنقاذ الأب، بعد أن قدم لنا الفيلم وثيقة مصورة مهمة عن المدينة والترام.