رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسقف يخدم بروح أبوة عالية


من بين عدد كبير من أساقفة الكنيسة القبطية الحاليين يوجد القليلون منهم- بل القليلون جدًا- من يخدمون شعبهم بروح «أبوة عالية»، ومن بينهم الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا الذى يخدم بشعار: «الذين أعطيتنى لم يُفقد منهم أحد»، وهو الشعار الذى تعهد به أمام هيكل الرب عند إقامته أسقفًا، وهو ما كان البابا شنودة الثالث «١٩٢٣ - ٢٠١٢» البطريرك الـ١١٧ يردده على مسامع الجميع «الأسقفية دعوة للاستشهاد»، لكن مَن يتذكر هذا التعهد؟ ومَن يسمع؟ ومَن يعى هذا الكلام؟ بل مَن يتذكر دائمًا هذا الكلام الذى سيدين الإنسان فى يوم الدينونة العتيد؟
يسجل لنا الأنبا مكاريوس- الأسقف الغالى جدًا على الكنيسة المحبوب بصدق ممن يحبون الحق- بصدق مشاعره الأبوية الحقيقية فى كلمة صادقة له بعنوان «حياة الإنسان غالية» فيقول: ذات مرة كنت أقف إلى جوار مجرى مائى فى الدير، ولاحظت طفلًا صغيرًا منكبًا على المجرى، أخذت أتابعه عن كثب، فوجدته يبذل محاولات مستميتة لإنقاذ فراشة سقطت فى الماء!! وبعد جهد جهيد استطاع رفعها من الماء ووضعها على سور القناة، وبدأت الفراشة تنتفض لتطرد عنها الماء الذى لحق بها، وما هى إلّا ثوانٍ معدودات حتى طارت بينما يراقبها الطفل بفرح واضح. لم تكن ثَمّة علاقة بين الطفل والفراشة، وهى ليست قطته أو كلبه الذى يحيا معه، ولكنه صَعُب عليه أن يفقد كائن حى حياته وبإمكانه إنقاذه، ونحن نعلم أن ملايين الدولارات لا يمكنها إرجاع الحياة لبعوضة ميتة. هذا الدرس كان من الدروس الأولى التى تسلمتها فى بكور حياتى، ومنذ ذلك الوقت وأنا من «أنصار الحياة»، وأشعر بأن كل إنسان وكل كائن حى له قيمة مهما كانت إمكانياته وسنّه وشكله، فلا يوجد إنسان موجود فوق العدد أو لا أهمية له، فالأم تحب أولادها جميعهم بدرجة واحدة مهما كانت الفروق بينهم، حتى إنها قد تبذل جهدًا أكبر مع غير المتميزين منهم. ومن هنا نفهم كيف يترك الراعى الخراف التسعة والتسعين ليبحث عن الواحد الضال، وكيف أن الاهتمام بالمريض والضعيف والساذج قد يحوّلهم إلى عظماء وجبابرة. إن الأسرة ليست تراكم أفراد، وهكذا العشيرة، وهكذا الدولة، ثم العالم أجمع، وإنما إنسان واحد ينمو فى كل الاتجاهات.. وبعبارة أخرى نحن أعضاء كثيرة لجسد واحد، لا يوجد عضو يمكن الاستغناء عنه، فأى عضو يعطُب يؤثر بشكل أو بآخر على أداء الجسم كله، فالجسم يعمل فى تناغم وسيمفونية وتجانس. لا يمكن لإنسان أن يقرر أن يحيا بعين واحدة، أو بنصف جسده، أو ببعض الأعضاء دون غيرها.. هذا على مستوى الإنسان من جهة، وعلى مستوى الأفراد معًا من جهة أخرى، وعلى مستوى الدول من جهة ثالثة، بل على مستوى بقية الخلائق ومنها الزروع، فهناك التوازن البيئى الذى إذا تدخل فيه الإنسان، اختلَّ وأضر بالعالم كله.
علينا أن نتفهم المجتمع بطريقة الـ«بازل» puzzle وليس بطريقة الـ«سبحة»، فالسبحة وإن كانت متصلة بالخيط الذى يجمعها، فإن كل حبة منها فى النهاية تُعَد مستقلة، وأما الـ«بازل» فهو لوحة مركبة متجانسة، إن غاب أى جزء منها تشوّهت، كما أن أى جزء فيها مهما كان، فلا قيمة له بمفرده.
ومن بين جوانب سياسة القطيع، الظن بأن موت البعض يزيد من نصيب البقية، مثلما تلد أنثى حيوان ما عددًا من الجراء، فإذا مات بعضهم رضع البقية بشكل أفضل.
عودة إلى «كورونا».. لا أستطيع أن أقبل فكرة أنه لا مانع من موت نسبة من البشر لدينا فى العالم ليحيا الباقون! إنها فكرة القطيع، فالقطيع والسرب والرتل هو عدد وليس نفوسًا، أرقام وليس شخصيات، ولكن الإنسان.. كل إنسان.. وكل الإنسان غالٍ جدًا، نتضامن ونتكاتف معًا لأجل شفاء كل مريض لينجو من الموت، ونحزن ونتأسف لكل من قضى حياته بفعل الوباء، كما أن منطق الجزء لأجل الكل غير أخلاقى، كما أنه لا يضمن من سيصبح ضمن الجزء ومن مع البقية، وقد يطول الموت الكل. هذا المنطق يصلح فى الحروب فقط، حين يضحى البعض لأجل الوطن، وإن كان الحاكم يسعى بكل قوته ألّا يفقد أيًا منهم، ولعل الهدف من الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة فى الحروب هو الحفاظ على حياة الأفراد- من الجانبين- كلما أمكن ذلك. أو أن يتقدم بعض المتطوعين للخضوع لتجارب عليهم بخصوص بعض الأمصال والأدوية، أو أن تموت أم عن ابنها سواء فى الإنسان أم بين المخلوقات الأخرى. بعكس أن يرى البعض أنه لا مانع من أن يموت آخرون لأجله، فيستهلك كل ما ومن حوله ليحيا هو.
لا يليق بنا أن نقول: وماذا يجرى إن مات مليون ليحيا فى المقابل عدة ملايين؟ إن كل واحد بين المائة مليون له قيمته، فحياته مقدسة وغالية، وعلينا أن ندافع عنها، ولعلنا نذكر هنا أنه إن تعرض شخص مختل للقتل، أو شخص يحتضر، أو طفل وليد، أو شخص مُشرَّد، فإن الجانى يُعامَل باعتباره قتل نفسًا، مثلها مثل الأبطال والعلماء والمليونيرات والمشاهير، وبالتالى لا تُخفَّف العقوبة بسبب تلك الحيثيات التى ذكرتها. وعلينا أن نتذكر الكلمة الخالدة للسيد المسيح التى وردت فى أنجيل القديس يوحنا: (وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ). هذه الأبوة الرائعة التى نراها الآن فى الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا المحبوب، سبق ورأيناها بقوة وتمتعنا بها فى البابا كيرلس السادس «١٩٠٢ - ١٩٧١» البطريرك الـ١١٦ الذى عاش بيننا فقيرًا لكنه أغنى الكثيرين بأبوته الفائقة. رأيناه يقف طويلًا ليستمع لإنسان بسيط لديه مشكلة، أو سيدة فقيرة فى احتياج شديد لتدبير مصاريف أولادها، بل كان يجلس بالساعات- بعد الصلوات اليومية التى كان يقيمها منذ الصباح الباكر- ليستقبل أولاده بأبوة فائقة وابتسامة عذبة، ويقدم لهم النصيحة الأبوية لكل من يقترب منه فيخرج الجميع من بعد لقائه وهم فى غاية السرور والفرح. لقد أشفق بحب على القطيع ولم يتركه يضيع. لأنه كان أبًا، بل أبًا حقيقيًا. كما رأينا الأبوة الفائقة فى البابا شنودة الثالث وحبه غير المحدود لجميع المحتاجين مرددًا قوله البليغ ذات المعنى: «نُعطى للمُحتالين من أجل المحتاجين». كل نفس كانت غالية عنده.