رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وائل خورشيد يكتب: بين الأبيض والأسود.. ألوان أخرى للحياة


الحياة سيناريو درامي ملحمي ممتد، تشمل الخير والشر، الحب والكره، الرضا والغيرة، القوة والضعف، الأمل والألم.

هل نعيش حياتنا وفق اللونين الأبيض والأسود فقط؟! الحق واحد والباطل واحد، ولكن هناك لبس بينهما. تصور، الحياة التي نعيشها أكثرها بين هذين الاثنين، أغلب الأشياء ملوثة بدرجات الخطأ من الأسوأ للأقل سوءا، والحق لون واحد فقط من قوس قزح، بمعنى لو أن بين الحق والباطل درجات، فالحق واحد منها والباطل واحد، وكل ما بينهما حق مشوب بباطل، ويزداد حتى الوصول للباطل المكتمل.

الحياة ليست حق وباطل سوى لمن ليسوا في الموقف، وليس لهم طرف فيه، لا من قريب ولا بعيد، مثل القضاة، وهي الفكرة الرئيسية التي وضعت عليها القوانين: «القاعدة القانونية عامة ومجردة».. التي يطبقها بشر!

مثال بسيط، سمعت أن رجلا قتل آخر، فهنا لدينا جريمة واضحة، لا لبس فيها، القاتل يجب أن يعاقب. فإذا سمعت أن القاتل فعل ذلك انتقاما، هنا قد تُخفف حكمك وتفكر فيما لو كنت مكانه، فهناك دوافع، ثم عرفت بعد ذلك أن القاتل ينتقم من المقتول؛ لأن الأخير أكل نصيبه في جريمة ارتكباها معا! ستلعن الاثنين، ثم تفاجأ أن القاتل فعل ذلك لأنه كان مضطرا.

تعالوا نقرأ الجريمة مرة أخرى: رجلا لديه طفلة في المشفى، ولا يملك المال لعلاجها، وآخر لديه خطة سرقة، ويحتاج لشريك لتنفيذها، فأغوى الثاني الأول بأن ينفذا الجُرم، الأول فعل ذلك لأنه يحتاج المال لعلاج طفلته، والثاني لأنه مجرم، بعد تمام التنفيذ، اختفي الثاني بالمال، فكان الأب هنا في حالة ألم قصوى، بين أنه سرق، وأن طفلته تموت. قرر الأب أن يذهب للشريك، فإذا كان قد سرق، فعلى الأقل يكون قد أنقذ طفلته، وحينما فعل ذلك قال له الشريك: ليس لك عندي شيئا، اذهب ابلغ الشرطة! وبالطبع لن يفعل. فقرر مهاجمته، وبعد ذلك قتله، وأخذ المال ورحل.

هنا في وجهة نظر القانون العام المجرد، فهو ارتكب جرمين، سرق وقتل. لكن في نظرة المقربين منه، والمتعاطفين فهو ضحية، وكان مضطرا، وفي رأيٍ عكسي فهو لم يكن ينبغي أن يفعل هذا وكان عليه أن يستعين بكل شيء في حدود الخير.

هنا نرى المساحة الفارقة بين الحق والباطل، والأبيض والأسود، تلك الألوان الكثيرة، الألوان التي تعبر عن كل شيء وكل فعل.

في معادلة الحكم مثلا، نكون أمام أطراف داخل الوطن الواحد. الحاكم والمحكوم اللامبالي والمؤيد للحكم والرافض.

إذا حدث أي شيء فإن الرافض يراه خطأ ويبرهن بطريقته، وطريقة رؤيته للأشياء، وإن رأى منه صوابا يكون بقدرٍ محدد وعلى استحياء، يضعه في صورة خاطئة كبرى. وأما المؤيد فهو يرى كل خطأ صواب وهو مبرر، واللامبالي دعنا منه، فهو لا يظهر كثيرا، وبالطبع النظام الحاكم لا يخطئ.. وإن كان قد يعترف ببعض الآثار الجانبية أحيانا.

لنصل للطامة الكبرى، حالة الأزمات، أو الحروب مثلا.

نعرف أن للسياسة تكلفة، وللقيادة ثمن، ولأن تكون محكوما لا مباليا نعمة وهي ألا تُختبر، وأن تكون معارضا أو مؤيدا فهي وسيلة لترضي ضميرك بما يميته، ومقامرة كبرى لا تعرف أين تنتهي.

للحروب قرارات كبرى يتخذها القادة، لتخدم سياستهم والتي تصب في صالح دولتهم من جهة، وصالحهم من جهة، ولها آثار جانبية، فقرار أمريكا مثلا باجتياح دولة أخرى للحصول على مواردها، هو في نظر كل المتضررين خطأ، وفي نظر المنادين بحقوق الإنسان خطأ، وبعض مواطني أمريكا الطيبون منهم خطأ، في نظر الحق والعدل والخير خطأ، لكن في نظر الحاكم هو الصواب وضريبة السلطة!

إن لم تفعل أمريكا ذلك، فلن ينعم مواطنوها بهذا الخير، ولن يكون لهم السيادة، لن يكون عندهم النفوذ.

الكثيرون يفعلون ذلك، بعض الناس يلعبون دور «عادل أدهم» الحياة، دور الشر، ينفذون الأفعال السيئة نيابة عن الجميع، بالطبع هم لا يفعلون ذلك خيرا، ولكنه لمصلحة أنفسهم وتدعيم موقفهم أولا، ويفعلون ذلك بدلا منا نحن الذين لا يمكننا أن نقبلها، ولا يمكننا أن نُقرها، ولا أن نكون مكانهم، والمفاجأة.. أن الحياة لا يمكن أن تستمر بدونها!

هم يفعلون ذلك ويشبعون رغبات خاصة داخلهم، والناس يتناسون ولا يستميتون في الرفض لأن فيما حدث مصلحتهم، والمعارضون يصيحون قليلا، والمؤيدون ينظرون للجانب الإيجابي، وتمضي الحياة، وتتقلب الأدوار، ويتكرر نفس الشيء.

حتى أني أتعجب من بعض الناس الذين يمارسون الشر هواية، دون مبرر حتى يمكن أن يُفهم، هم شرٌ خالص، يعيشون بيننا، يقتاتون على إيذاء الآخرين، صراحة لا أعرف ما دورهم، ولكن بالتأكد لهم دور. ربما هم اختبار لنا، أو علامات تهدينا للطريق الصحيح، لا أعرف.

ولكن حاول أن تفكر بهدوء. الشر موجود طوال الوقت، منه ما هو معلن، وأكثره مستتر، تحت عباءات كثيرة. الشر حولنا في كل مكان، نقاومه، ويقاومنا، فنبتكر وسائل لنقضي عليه، ويبتكر هو أيضًا ليُجهز علينا.

الشر - وللأسف - له دور رئيسي في دراما الحياة.

بالطبع أنا لا أبرر الجريمة، ولا أحلل الخطأ، ولكن فقط أتكلم عن عبث الحياة وهذا التوازن الذي يسيرها. ولا أقول إنه ليس هناك وسيلة أخرى، فهناك بالطبع، الحق والعدل والخير والتعاون، ولكن دعوني أخبركم أنها مثالية على الأغلب ليس لها وجود، وإن وجدت لا تستمر كثيرا.

لنفترض مثلا أن العالم كله قرر أن يكون خيّرا، ونتعاون ونتبادل الموارد ونعيش جميعا، في وقتِ ما سيطمع أحدهم، وهو ما يعني نشوب خلاف، وهو ما يستتبع تدعيم القوة، وهو ما يحتاج مواردا أكثر، أي عدوانية على ملك الغير. الرغبة في التفوق، والغيرة والشر في حد ذاته والغباء وغيرها، كلها أمور ستدفع بعد وقتِ قصير للصراع؛ لأن الناس ليسوا كتلا مصمتة، ولا قواعد عامة مجردة، ولكنهم ممتلئون بمشاعر وأفكار مختلفة.

ولكن مع ذلك مازالت القيم الجيدة موجودة في الحياة، فهي تحقق التوازن الذي يمد عمر الحياة حتى نهايتها الحتمية.