رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المشروع التركى لتقسيم ليبيا


المتتبع لأحداث هذا الأسبوع الفارق على صعيد ما يجرى فى ليبيا وما حولها من تطورات، فضلًا عن اللقاءات والتصريحات التى خرجت من جهات معنية بشكل مباشر بما يجرى على الساحة الليبية- يجد أن هناك ملامح جديدة بدأت تتشكل على الأرض، رغم أنها ظلت حاضرة ربما منذ اللحظات الأولى للصراع، لكن هذا الأسبوع وحده حمل من الانكشافات ما يستوجب الوقوف أمامه، باعتبار أنها تؤشر فى مجملها على حزمة من المتغيرات طرأت على المشروع التركى فى ليبيا وفى منطقة الشمال الإفريقى بكامله وبسواحله ومياهه الإقليمية.
أول هذه الانكشافات أن أنقرة تأكدت من عدم قدرة قوات الغرب بكل مكوناتها من التصدى للجيش الوطنى الليبى، وأن حصار طرابلس العاصمة الذى امتد لشهور قد يؤدى إلى سقوطها فى نهاية الأمر حتى وإن طال أمد الوصول إلى تلك النتيجة. هذا دفع الجانب التركى إلى استبدال مفهوم «الدعم» إلى آخر تمثل فى «الإدارة» المباشرة لكامل مكونات مسرح العمليات الغربى، قام بتنفيذ هذا الأمر مجموعة من الخبراء العسكريين الأتراك الذين وصلوا إلى المنطقة الغربية للإمساك بزمام القيادة وليشهد تسليح ومهام الميليشيات وفرق المرتزقة تطورًا فارقًا.
تجلت أول ملامح هذا التطوير فى التخطيط لاسترداد بلدات «مصراتة» و«صرمان» و«العجيلات»، كخطوة أولية من أجل دفع نقاط ارتكاز الجيش الليبى خارج الدائرة المخطط وصولها إلى مرحلة سيطرة تركية كاملة. وبقيت بلدة «ترهونة» باعتبارها آخر وأكبر تلك البلدات التى انضوت طوعًا تحت لواء مشروع التطهير والتحرر الوطنى الذى يخوضه الجيش الوطنى الليبى، وستكون تلك البلدة المحاصرة حاليًا، والتى تشهد عمليات إغارة متقطعة طوال هذا الفصل الجديد، هى الهدف القادم الذى لن تتنازل عنه وستبذل فيه تركيا ما قامت ببذله فى خطواتها السابقة.
ثانى تلك الانكشافات تمثل فى اليقين التركى بأن آلية دعم «مكون» بالغرب الليبى قد لا يكون مأمونًا لمشروعها على المدى الطويل، فهذا المكون يظل أقلية بالنظر للمجمل الليبى، ولن يكون بمنجاة من السقوط والتهاوى فى أى لحظة تنتجها توافقات المستقبل، لذلك وجد المشروع التركى أنه من دون تواجد «عسكرى» مباشر له على الأراضى الليبية سيظل مجمل المشروع معرضًا للتهديد طوال الوقت، وهذا التقدير كان سببًا رئيسيًا فى توقيع اتفاقية التعاون العسكرى مع حكومة الوفاق، باعتبارها قادرة عبر بنودها وآلياتها من تحقيق الحماية للاتفاقية الأخرى المتعلقة بترسيم الحدود البحرية ما بين الدولتين.
هذا المسار الملغم والاحتياج العسكرى الملح يؤديان تجاه قاعدة «الوطية» العسكرية، حيث تقع تلك الأخيرة فى القلب من هذه الدائرة المستهدفة، وعلى خطوط التماس الاستراتيجى مع الحدود الليبية التونسية، وهو الامتداد والظهير المأمون الثمين لما يمكن القيام به فى محيط «نصف دائرة» كبيرة، يشكل خطها المستقيم الشريط الساحلى الليبى الممتد من مصراتة شرقًا إلى حدود تونس غربًا، ويضم الخط الدائرى المتخيل للنصف المشار إليه بداخله العاصمة طرابلس وكل المدن الرئيسية الواقعة داخل ما كان يعرف قديمًا بولاية طرابلس.
بعد الاستهدافات المتتالية لقاعدة «الوطية» العسكرية، وصلت إلى حد استخدام بوارج حربية تركية فى قصفها بصواريخ موجهة، وأخرى تحمل معدات تشويش بتقنية عالية أسهمت فى تقديم دعم استثنائى للمجموعات التى هاجمت القاعدة على مدار شهر كامل حتى تمكنت من الاستيلاء عليها هذا الأسبوع، وبذلت فى سبيل ذلك فضلًا عن الجهد العسكرى المباشر أموالًا طائلة من أجل تسهيل إخراج قوات الجيش الوطنى منها. لن يكون فى مخططها مستقبلًا بالطبع تسليمها إلى حكومة الوفاق أو غيرها، فهى خلال أسابيع وربما أيام قليلة ستكون بصدد اعتماد نموذج قاعدة «بعشيقة» العراقية فيها، وهذه المرة ستكون مرجعية النموذج هى اتفاقية التعاون العسكرى الموقعة مع حكومة الوفاق التى بمقتضاها ستدخل القوات العسكرية للجيش التركى بشكل مباشر وحصرى للتمركز بهذه القاعدة الحصينة. وقد يكون من الملائم إلقاء الضوء على تاريخ استيلاء تركيا على قاعدة «بعشيقة» على الأراضى العراقية باعتباره سيكون هو السيناريو «طبق الأصل» الذى اعتمد بأنقرة مؤخرًا، وهو من المستجدات التى جرى انكشافها، والتى ستمثل الخطوة المركزية لمشروع التقسيم التركى المأمول.
فقد ظلت القوات العسكرية التركية تتوغل داخل إقليم كردستان العراق لسنوات، فى حملات مطاردة افتراضية لعناصر «حزب العمال الكردستانى»، بموجب اتفاق بين البلدين دون أن تقيم قواعد ثابتة فى الإقليم. لكن الوضع اختلف فيما بعد العام ٢٠١١، حيث أقر رئيس وزراء تركيا عام ٢٠١٨ خلال مؤتمر صحفى مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادى بوجود «١١ قاعدة عسكرية تركية» داخل العراق، معلنًا حينها أن تركيا تنوى زيادة عدد قواتها المتمركزة فى هذه القواعد، رغم احتجاج الحكومة العراقية من حين إلى آخر. لكن العدد الحقيقى لهذه القواعد يصل إلى أكثر من «١٥ قاعدة عسكرية»، بعضها يقع على عمق ٣٠ كيلومترًا داخل إقليم كردستان العراق، أهم وأكبر تلك القواعد «قاعدة بعشيقة» التى تتواجد بها غرفة العمليات المركزية، التى تدير عمل هذا الوجود العسكرى التركى، وهى تقع على أطراف مدينة الموصل، حيث تبعد أكثر من ١٤٠ كيلومترًا عن الحدود التركية العراقية. تضم القاعدة نحو «٢٠٠٠ جندى تركى» ومئات الدبابات ومدافع بعيدة المدى، كما أنشأت تركيا بها لاحقًا عددًا من المقرات الأمنية، يتمركز فيها عناصر الاستخبارات التركية «MIT» دون الكشف عن ذلك، رغم علم كل المقيمين بالمكان من عراقيين وأكراد بهذا الأمر.
المثير أن موقع القاعدة الاستراتيجى، حيث تقع فى قضاء الموصل بمحافظة «نينوى»، وتطل على الجهة الشمالية الشرقية لمدينة الموصل، هى المنطقة ذاتها التى اجتاحها تنظيم «داعش» فى يونيو ٢٠١٤، مما تسبب فى نزوح كبير لقاطنى المنطقة بكاملها من الإيزيديين والمسيحيين وبعض الأكراد إلى محافظة «دهوك» فى كردستان العراق، ليبقى المشهد بعد هذا الإخلاء القسرى الدموى الذى تابعه ويعرفه العالم أجمع يحمل سنوات من الجوار «الآمن» ما بين القاعدة العسكرية الاستخباراتية التركية «بعشيقة»، وعناصر وجيش تنظيم «داعش» الرئيسى بالعراق، حيث لم يسجل على هذا الأخير الذى هاجم وانتهك كل المكونات العراقية بالمنطقة أيًا من أشكال الاقتراب من القاعدة التركية التى بادلت التنظيم هى الأخرى أمنًا بأمن. هذا الوضع قائم حتى الآن رغم مرور ما يقرب من عقد كامل من الزمن، والذرائع التركية لا تنتهى بالطبع والسماح والتغاضى الدولى يظلل على هذا الأمر دون أى اعتبار لمفهوم السيادة الوطنية لدولة العراق.
بصورة مستنسخة سيكون هذا هو المصير المرتقب لقاعدة «الوطية» العسكرية الليبية، فتركيا تخطط لوجودها المستقر حتى وإن تغيرت المعادلات على الأرض مستقبلًا، ففى هذه المنطقة الاستراتيجية التى يقع الجوار الجنوبى التونسى على مسافة عشرات الكيلومترات من موقع القاعدة يمثل لها ارتكازًا ثمينًا لن تتنازل عنه بسهولة، وتجهيزات ومساحة القاعدة العسكرية الليبية تسمح للجيش التركى بجلب أسراب «الطائرات المسيرة»، ليكون مستقرها وإدارتها داخل هذه القاعدة، حيث يؤمن لها ذلك سيطرة جوية على محيط «ولاية طرابلس» بكاملها، فضلًا عن تثبيت منظومات متطورة للدفاع الجوى القادر على حرمان الجيش الوطنى من ميزة التفوق الجوى الذى ظل يتمتع بها لسنوات مضت.
أنقرة تدرك أن ليبيا «كاملة» قد تكون خيارًا صعبًا تحقيقه الآن، وقد يكون أكثر كلفة، مما يمكنها تحمله أو فرض مكون ليبى يتحكم فيها، لذلك قامت بتبديل تكتيكات وجودها وتحركاتها ليصير مركزًا وأكثر فاعلية ومرونة على «الولاية» التى يمكنها أن تكون نواة لمشروعها الكبير، وهى ليست مصادفة تتمتع بالجوار الآمن التونسى والجزائرى، حيث سيجدان أن التقسيم ربما هو «خيار» الأمر الواقع إذا قدمت أنقرة لكليهما من الميزات التطمينية ما قد يتجاوز المخاوف التى تعمل على تفكيكها بهدوء منذ زيارات أردوغان وطاقمه العسكرى والاستخباراتى الموسع لكلتا العاصمتين اللتين لم تحسما أمرهما بعد رغم متابعتهما لكثير من الشواهد التى تسير صوب هذا الاتجاه، لذلك تظل تلك المساحة هى الأكثر أهمية لأنقرة، والمفيدة بصورة مباشرة للمشروع التركى الإخوانى الذى أدرك عبر سنوات مرهقة أنه قد يتعثر فى فصول قادمة أمام المشروع الوطنى المقابل. لهذا لن يكون أمامه سوى التمسك بهذا الثلث من ليبيا الكاملة، دون التورط فى السير تجاه الشرق أو الجنوب، إلا ربما عبر إنفاذ مجموعات المرتزقة التى تجيد تركيا أيضًا إدارتهم تاريخيًا بنجاح كى يمثلوا عامل ضغط وإشغال للجيش الوطنى الليبى، ويؤمنوا للجانب التركى ارتكازًا وسيطرة آمنة على ما سيجرى التوافق عليه مع الأطراف الدولية التى كما رعت وظللت على الوجود التركى بالعراق وسوريا ليس بعيدًا أن تمارس مرة أخرى ذات الفعل فى ليبيا، خاصة بعد ما عد من الانكشافات الجديدة هو الآخر الصادر عن «قيادة الناتو» مؤخرًا، حيث بدا موقفها وكأن هذه المخططات التركية تعمل لحسابها أو وفق تمرير جرى التوافق بشأنه مسبقًا.
مصر أمس الأول، على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى، علقت على هذا المشهد المستجد بكلمات مقتضبة لكنها حاسمة، ونافذة مباشرة إلى معناها وهدفها، فبعد وصف استقرار ليبيا بأنه يعد من محددات الأمن القومى المصرى، ذكر نصًا أن «موقف مصر ثابت من الأزمة الليبية، بالتوصل لحل سياسى للأزمة، والحفاظ على سيادة ليبيا وأمنها و(وحدة أراضيها)».