رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

توبة الشرير.. أبى فى السينما المصرية


الأب هو أغلى ما فى الوجود، هو الذى ينافس الأم فى مسابقة الحب، هو الذى يحمل أثقالًا فوق أثقاله من أجل أبنائه، هو الذى ينظر إليه الابن فى طفولته، فيراه طويلًا قويًا واسع الحيلة حكيمًا، رغم أنه قد يكون غير ذلك، وفى حياتى رأيت أبناء عاشوا فى جلابيب آبائهم، وأبناء تمردوا على هذه الجلابيب، وأبناء جعلوا من آبائهم أقانيم مقدسة، أما فى الدراما فكان الأب فى الغالب هو الموظف البسيط المطحون من أجل أسرته، نعم معظم الأفلام والمسلسلات لا بد أن يكون فيها مكان للأب، ولكن الأب فى هذه الأفلام هو مجرد دور من ضمن أدوار كثيرة تتداخل وتتشابك مع تطور الأحداث، وليس هو صاحب الخط الدرامى الرئيسى فى العمل الفنى.

وكلمة «أب» فى اللغة العربية تتكون من حرفين، الألف والباء، الألف هو أول حروف الأبجدية، هو المبتدأ، والباء هو الحرف الثانى فى ترتيب الأبجدية، هو من حروف الجر، ثم هو من حروف الالتصاق، كأن تقول: أمسكت بـ«كتاب»، وكذلك هو من حروف السببية كأن تقول: ارتفعت باجتهادى، أى بسبب اجتهادى، فكأن كلمة أب نفسها تفيد كل معانى الأبوة بحرفيها الألف والباء، حرف الابتداء الألف، والأب منه الابتداء، وحرف الالتصاق والسببية وهما وظيفة الأب مع أبنائه فى الحياة.
فإذا تركنا اللغة وحروفها وذهبنا إلى الفن وأبوابه سنرى عمالقة قاموا بدور الأب، مثل حسين رياض وزكى رستم ويوسف وهبى وسراج منير ومحمود المليجى وعماد حمدى، وصولًا إلى فريد شوقى وعزت العلايلى، وعشرات الأفلام كانت شخصية الأب فيها هى الشخصية المحورية، وسأغض الطرف هنا عن الأب الذى ظهر بصورة شريرة لأحكى لكم عن الأب الطيب، وقد كان يوسف وهبى هو أكثر الآباء طيبة ونبلًا وشهامة ومروءة فى السينما برائعته «بيومى أفندى»، وكان هذا العمل فى بدايته مسرحية من المسرحيات الشهيرة لفرقة يوسف وهبى، وقد أعطاها اهتمامًا خاصًا، حيث رسم شخصية الأب ببراعة الكاتب الأديب والفنان المُلهم، إذ كان هو مؤلفها ومخرجها، ثم قام بعد ذلك بتحويلها إلى فيلم سينمائى، ومن حسن طالع جمهور المسرح قام يوسف وهبى بتقديمها فى الستينيات مرة أخرى على مسرح التليفزيون، فحصلنا على نسخة مصورة شاهدناها كثيرًا، ولكن يبدو أن فنون المسرح فقدت حظوظها على شاشة التليفزيون، فأصبح عرض هذه المسرحية نادرًا.
الأب فى مسرحية «بيومى أفندى» هو الرجل الطيب البسيط، يعمل فى أحد محال تصليح وبيع الساعات، ثم يتزوج من خادمة، وينجب منها ابنًا وابنة، ولكنه يعرف أن الولد الذى أنجبته زوجته لم يكن ابنه، ولكن ابن لسائق الرجل الذى كانت تعمل زوجته عنده خادمة، وهو الذى أوقعها واعتدى عليها فحملته سفاحًا، وبيومى أفندى الطيب يقع فى حيرة، هذا الطفل لا يزال رضيعًا، فهل يتركه يكبر فى كنفه أم يلقيه فى البحر؟! ويعيش الأب المكلوم فى شرفه لحظات مؤلمة تتناوب عليه الأفكار، يحرّضه شيطانه مرة، ثم يعود ملاكه الطيب ليطرد من ذهنه كل الأفكار الشريرة، فما ذنب هذا الرضيع، ما الجرم الذى ارتكبه؟ ثم إن الأب المجرم الذى استولد خادمته من سفاح قد مات، فليحتفظ بهذا السر فى نفسه، ولا يبوح به لأحد، حتى لزوجته، فقد قر قراره على أن يمضى معها رحلة الحياة، وقد كان، ثم أنجب منها ابنة جميلة طاهرة بريئة كانت هى فاكهة حياته، وكأن الله أهداه الابنة ليربت على قلبه، ويشفى جراح نفسه.
والأب الطيب تمضى به الحياة، وتتبدل أحواله، ويسعى إليه الخير سعيًا ويتسع رزقه، ويصبح صاحب أكبر محل ساعاتى ومجوهرات فى البلد، وكان هذا الأب هو «الطيوب الحبوب» ترك أمر إدارة البيت لزوجته التى تسرف فى تدليل ابنها، فينشأ الفتى مدللًا ناعمًا، والحياة لا تسير دائمًا على منوال واحد، فحينما تكبر الابنة حبيبة أبيها تقع فى حب طبيب شاب، ويتقدم الطبيب ليتزوجها، ولكن يتضح أن هذا الطبيب ابن مجهول النسب، وإخوته أقاموا عليه قضية لإنكار إخوتهم له، وتصبح فضيحة يتحدث عنها المجتمع.
براعة يوسف وهبى فى التأليف ظهرت هنا وهو يضع عقدة العمل الدرامى بشكل مكثف، والجمهور بطبيعة الحال سيستظهر المقابلة بين الابن المدلل الذى ولد من سفاح، والطبيب الجاد الذى يقف فى نفس الموقف، ولكن كلتا الشخصيتين مختلفتان، فيرفض الابن المدلل أن تتزوج أخته من شاب مجهول النسب، وتظهر قسوته تجاه هذا الخاطب، والأب يحاول أن يسترضى الجميع، ويسعى إلى إقناع ابنه بهذا الزواج وأن الطبيب لا ذنب له، ويبرع يوسف وهبى فى نصه فى نقل الأحداث من حالة شعورية إلى حالة شعورية أعلى، إلى أن يضطر الأب الساعاتى أن يخبر ابنه بالحقيقة، حقيقة أنه ليس ابنه، وأنه ابن سفاح، وينهار الابن ويحاول الانتحار، ولكن مشاعر الأب تتجمع فى الساعاتى بيومى أفندى، ولا يمكن لأحد أن ينسى يوسف وهبى وهو يؤدى مشهدًا هو الأعلى له فى تاريخه كله، أعلى من أى عمل أداه، أعلى من دوره فى مسرحية «كرسى الاعتراف» الذى قام فيه بدور الكاردينال «جيوفانى» الذى ينتمى لأسرة عريقة هى «آل ميدتشى»، ورغم أن هذا الدور يعتبر علامة بارزة فى تاريخ يوسف وهبى إلا أنه بلغ العُلا كله فى المشهد الأخير فى «بيومى أفندى» وهو يستعيد ابنه نبيل إلى الحياة مرة أخرى، ولا يزال صوته وهو يقول: «لا يا نبيل، لا يا بنى» يرن فى آذاننا كأننا نسمعه الآن، وستبكى وهو يحكى لنبيل عن أيام طفولته: «مين كان بيزغطك الشوكولاتة فى بقك النونو، مين كان بيعمل لك شوال الملح ويشيلك على ظهره..» ويستمر يوسف وهبى يثير مشاعرنا ويبكينا، ثم يقول له: كلمة بابا هى أغلى كلمة فى الدنيا، هى الكلمة التى يتحمل من أجلها الأب كل شىء فى سبيل سعادة ابنه، ولا يمكن أن تنسى خفة ظل بيومى أفندى، فيبكينا ويضحكنا، ثم يبكينا ويضحكنا، وقد كان هذا هو الأب المصرى الطيب مع أسرته، يخفى بكاءه ليضحك أسرته.
ولننظر لعمل فنى آخر فى اتجاه صورتين أخريين متقابلتين، الأب الذى يساعد ابنه ويقف معه ليتجاوز أزمة كبرى مرت به وكادت أن تطيح به من عجلة الحياة، وهو يعلم أن ابنه على حق، والأب الآخر الذى يقف مع ابنه ليخفى عن الناس حقيقة الجرم الذى ارتكبه ابنه، الأول هو الأب محمود المليجى، والثانى هو الأب سراج منير، وكلاهما كان فى فيلم «أيام وليالى»، ولا يهمنا من قصة هذا العمل إلا أن «عبدالحليم حافظ» كان ابنًا لمحمود المليجى وعقيلة راتب، وكمال حسين كان ابنًا لسراج منير، ولأن الأب المليجى ظهر فى بداية العمل إنسانًا سكيرًا مقامرًا لا يهتم بأسرته لذلك طُلقت منه زوجته، وأخذت ابنها وسافرت للقاهرة لتتزوج من سراج منير والد كمال حسين، وتسير بهم الحياة، حليم شاب مهذب ومحترم وخلوق، وكمال حسين شاب مدلل وعابث وفاسد، والذى يهمنا هنا هو أن كمال حسين يصدم رجلًا بسيارته فيرديه قتيلًا، ولكن البوليس يتهم عبدالحليم لأنه جاء بسيارته خلف كمال حسين، وتوقف لينقذ المصاب فقبض عليه البوليس ظنًا أنه صاحب الجرم، هذه هى الأزمة، شاب برىء يُتهم ظلمًا، وشاب فاسد لا يعرف أحد أنه هو القاتل، فلم تجد عقيلة راتب بُدًا من أن تلجأ لزوجها السابق لينقذ ابنه، فالكل كان يعرف الحقيقة ولكن سراج منير يهدد ويتوعد لو كشفت الزوجة للمحكمة حقيقة الأمر.
ورغم أن المؤلف هو الكاتب الكبير يوسف جوهر، وسبق له أن عمل بالمحاماة، إلا أنه لم يضبط مسألة الأزمة التى مرت بالشابين. فجريمة القتل الخطأ من الجرائم الشائعة التى لا تمس الشرف أو الاعتبار، والبعض يجعلها جريمة قدرية، وكانت تحدث بالعشرات أو المئات فى ذلك الوقت، والأحكام التى تصدر فيها تكون بالسجن المخفف لمدة بسيطة أو الغرامة، ولكنها فى هذا العمل أصبحت وكأنها جريمة كبرى تتحدث عنها الصحف بل تصبح عنوانًا رئيسيًا لها، ويقف وكيل النيابة ليترافع فيها، ويتهم الذى ارتكبها بالشاب الفاسد المتهور الذى هو كذا وكذا! مع أن الاصطدام حدث ليلًا ومن الوارد أن يكون القتيل هو الذى أخطأ، ولم يرد فى العمل الفنى أن شاهدًا ما شاهد السيارة التى ارتكبت الحادث، بمعنى أن مثل هذا التصوير للجريمة الذى جاء بالعمل مآله حفظ التحقيق لعدم معرفة الفاعل، ولو أراد المؤلف أن يضع أزمة كبرى لكانت مثلًا «قتل عمد» أو «سرقة بالإكراه» أو جريمة من هذه الجرائم.
ولكن شخصية المليجى تتغير فجأة! فهو لم ير فى حياته ابنه منذ تركته الزوجة وسافرت للقاهرة بابنها، وهو لا يزال يعيش فى حياته اللاهية، يدمن الخمر، ويقتات من بعض لوحات يرسمها، ولكن هذا الأب إذ فجأة يصبح هو الأب الحكيم صاحب التجارب فى الحياة الذى يعرف الحق، ويشد من أزر ابنه دون مقدمات كافية تجعلنا نقتنع بحكمته المتأخرة، وفى ذات الوقت يدافع سراج منير عن ابنه وكأن الفعل الذى ارتكبه هو جريمة كبرى، ولو تم تطوير شخصية المليجى مع الأحداث، وكيف أصبح نادمًا على تفريطه فى زوجته وابنه، وكذلك شخصية سراج منير، والحقيقة أن هذا التطوير فى الشخصيات لم يكن سيتم إلا إذا تم تغيير نوعية الجريمة المرتكبة، ورغم أداء المليجى البارع إلا أن السيناريو لم يترك له مساحة ليقدم حلولًا حقيقية ينقذ بها ابنه، غير أنه نظر وهو خارج من قصر سراج منير بقلة حيلة إلى زوجته السابقة عقيلة راتب ثم مطّ شفتيه دلالة على قلة الحيلة، ولو كانت نوعية الجريمة مختلفة لكان من الممكن إسناد أمر مهم للأب يكون هو السبب فى نجاة ابنه.
والآن لا يمكن أن أترككم دون أن أتكلم عن فيلم «المواطن مصرى» وذلك المشهد العبقرى الذى أداه الفنان عزت العلايلى، وهو ينظر لابنه فى النعش، ولكنه مضطر أن ينكر أن هذا هو جثمان ابنه البطل، فقد أدى عزت العلايلى فى هذا المشهد أعلى ما قدمه من حالة إنسانية عبر تاريخه، ولكى تعلم عظمة العلايلى، فيجب أن تشاهد هذا المشهد بنفسك، وستعلم وأنت تشاهده أن أثقل شىء فى الوجود هو نعش الابن عندما يحمله الأب، وأن أكبر مصيبة يمكن أن تمر بأب هى أن يشاهد جثمان ابنه، ويحاول أن يسيطر على نفسه حتى لا يعرف «الضابط» أن هذا هو ابنه، فيرتعش جسد الأب، وتنسال دموعه رغم أنه كان يحبسها، ولكن ليس فى طوق أب إذا حبس دموعه أن يحبس مشاعره، ولكنك فى ذات الوقت ستغضب من ذلك الأب الذى اضطر تحت ضغط الحاجة أن ينكر أن هذا ابنه، وستقول ملعونة هى تلك الحاجة، وإذا كانت الدموع قد انسالت رغمًا عن صاحبها، أم كان من الأجدى للكاتب الكبير يوسف القعيد أن يجعل الحقيقة تنسال هى الأخرى رغمًا عن صاحبها، فأنا أقطع بأن أى أب فى مصر، يحمل مشاعر هذا الأب، كان من الحتمى أن يكشف الحقيقة وليكن ما يكون، وكما يقول المثل: «على نفسها جنت براقش».