رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محبوب الشمس.. يحيى الطاهر عبدالله


لا أستطيع أن أصدق أن نحو أربعين عامًا انقضت على رحيل القاص يحيى الطاهر عبدالله فى ٩ أبريل ١٩٨١، يبدو لى كأنه غادرنا أمس فقط، ثم إنه غادرنا لمشوار قصير وسيرجع ليواصل حكاياته وقصصه التى كان يلقيها شفاهة، ربما يكون السبب ليس فقط ما تركه يحيى من بصمة قوية فى عالم القصة القصيرة، ولكن شخصية يحيى المأساوية والخصبة، وقلقه الذى كان ينقله للآخرين وحركات يديه التى لا تتوقف حول وجهه، ثم الشعور الدائم بأنه يبذل جهدًا مؤلمًا لكى يتواءم مع العالم من حوله. وربما كان يحيى الوحيد من بين أبناء جيل الستينيات الذى تشعر وأنت تصافحه أنك تصافح دمه.
فى تلك السنوات كانت القاهرة تبدو صغيرة، ومقاهى المثقفين معدودة، وكان ثمة شعور بأن جيلًا جديدًا يتكون ويتخبط فى ظل الناصرية ويحاول بقبضاته الصغيرة أن يطرق أبواب السماوات الضخمة الملبدة بالمجهول، فى تلك السنوات نشأت علاقتى أوثق ما تكون بأربعة من أبناء جيلنا، هم: جمال الغيطانى وأمل دنقل وأحمد هاشم الشريف ويحيى الطاهر، وكنا جميعًا من القاهرة، أما يحيى فقد جاء من الصعيد إلى مدينة ليس له فيها أحد أو شىء، يجوب الشوارع من دون بيت أو سقف أو دعم، قصصه كلها فى رأسه يقرأها من الذاكرة، وكل ما يملكه قميصه الذى يهفهف فوق صدره، فكان أشبه بفكرة مجردة تخففت من كل شىء إلا أحلام القاص العظيم وطبيعته القلقة.
ولعله الوحيد بين أبناء جيل الستينيات الذى أصر على تسجيل مهنة «قصاص» فى بطاقته الشخصية وتمكن من ذلك. كان أول من نبهنى إلى أهمية الفن السينمائى، وإلى ضرورة متابعة الأفلام بعين يقظة، وإلى الكثير من الكتب التى تنبغى قراءتها وإلى النظر إلى العالم كوحدة متكاملة، أذكر أننا كنا نمشى فى شارع حين ضرب حجرًا على الأرض بطرف قدمه قائلًا: «وحتى هذا الحجر مرتبط بنا، وبما يجرى فى كل مكان، انظر إليه وحاول أن تفهمه».
فى الستينيات جرفنا تيار ماركسى اعتقل منه البعض عام ١٩٦٦، كان منهم صلاح عيسى وإبراهيم فتحى وجمال الغيطانى، وكان يحيى مطلوبًا للاعتقال، لكنه تمكن من الهروب والاختفاء عن أعين الحكومة حينذاك، وكنت ألتقى به سرًا لأقوم بتوصيل النقود والملابس إليه، وأذكر أنه كان دائم القلق والخوف من أن تعلم عطيات الأبنودى بمكان اختفائه أو بأننى ألتقى به، وطمأنته عدة مرات إلى أننى لم أفصح لها عن شىء.
وبعد شهور من الهروب تم اعتقال يحيى لعدة شهور ثم خرج مع الجميع، وعلمته تجربة السجن أن عليه أن يكرس كل دقيقة من حياته للعمل الأدبى الذى فطر عليه، وكان قد بهرنا بقصتين شهيرتين هما «محبوب الشمس»، و«٣٥ البلتاجى» اللتان نشرتا فى مجلة «الكاتب» بتقديم من العظيم يوسف إدريس، ثم واصل الإبداع ليعرض علينا عالمًا جديدًا بلغة جديدة وأبنية فنية جديدة طازجة، وهو ما أشار إليه يوسف إدريس بعد وفاة يحيى فى مقاله «النجم الذى هوى»، ولعل يوسف إدريس كان على حق حين قال إن التجربة الأدبية لذلك القاص المدهش كانت أشبه ما تكون بمعمل فى طريقه لإنجاز اختراع مذهل، لكن قصفًا مفاجئًا أوقف التجربة فى منتصفها، ولم يكن ذلك القصف سوى الموت الذى اختطفه فى حادث سيارة على طريق القاهرة الواحات فى ٩ أبريل ١٩٨١.
ترك يحيى الطاهر سبع مجموعات قصصية تعد علامة فى تاريخ القصة، بدءًا من «ثلاث شجرات تثمر برتقالًا» عام ١٩٧٠، ثم «الدف والصندوق» ١٩٧٤، و«الطوق والأسورة» ١٩٧٥، التى تحولت إلى فيلم شهير، و«أنا وهى وزهور العالم» ١٩٧٧، وفى نفس العام نشر «الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة»، ثم قدم «حكايات للأمير» بعدها بعام، وأخيرًا عام ١٩٨١، قبل موته، نشر «تصاوير من التراب والماء والشمس».
لا أدرى أكان حتمًا أن يموت يحيى فى حادث؟ لكننى كلما تذكرته جرفتنى فكرة أن كاتبًا عجيبًا مثل يحيى كان لا بد أن يختار الموت بطريقة خاصة، أتذكره وأراه مشحونًا بكهرباء القلق الفنى الخصب، لا يملك من العالم سوى قميص يهفهف مفتوح فوق صدره، وقدمين تجوبان الشوارع من دون توقف، وخيال لا حدود له، ويدين لا تتوقفان عن الإشارات والحركة بعصبية وحدّة، هكذا كان، وهكذا سيبقى «محبوب الشمس».