رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«The platform».. الغريزة قد تقود إلى الإثم


في عزلتنا الإجبارية قد يتجه البعض إلى الترفيه عن نفسه بمشاهدة الأعمال الفنية، والنهم في القراءات المؤجلة، غير عابئ بما سوف يحدث لاحقًا؛ ومجموعة أخرى اتخذت من الذعر والوساوس منهجًا ودربًا يسيرون فيه وهى الطريقة الأكثر إيلامًا.

إذا كنت من هؤلاء الذين يريدون مشاهدة مأساة السجن الكارثي ليشعرون بأنهم لا يزالون بأمان وسكينة، وفق "التطهير" وهو المبدأ الشهير لدى أرسطو في الماساة، فلتشاهد فيلم "المنصة" وهى الترجمة الإسبانية "الحفرة" the، platform، عندها لن تغضب عندما تنفذ المؤن من البقالة والأدوية من الصيدليات، لأن جميع الكائنات وعلى رأسهم الإنسان -هذا الكائن الاستهلاكي- يسعون للبقاء لكن ليس على طريقة أبطال الفيلم التي لا سبيل غيرها أمامهم.

الفيلم الذي يدور في سجن عمودي متخيل يتكون من طوابق عديدة تصل إلى أكثر من ثلاثمائة طابق، مفتوح الأرضية من المنتصف ليسمح لمائدة الطعام الكبيرة أن تهبط بين الطوابق وتستقر في منتصف الحجرة في وقت محدد يوميًا، ولدقائق معدودة تدفع السجناء إلى الإسراع في التهام كل ما يمكن اللحاق به بسرعة شديدة تشبه نهم الحيوانات الجائعة، وذلك قبل أن تهبط المائدة نفسها إلى الطابق الأسفل ليأكل منها سجينا هذا الطابق؛ وهكذا تستمر المائدة في الهبوط إلى الأسفل بنفس المأكولات أو بقاياها، وتبقى لدقائق معدودة قبل هبوطها مجددًا.

يسكن كل طابق سجينان، يشعران بالكراهية لسجناء الطابق الأعلى والاحتقار لمن هم في الطابق الأدنى. يأكلون بشكل مفجع وسريع لعدم السماح لهم بادخار بعض الطعام قبل هبوط المائدة سريعًا.

الغريزة

يناقش الفيلم غريزة البقاء التي تعد الغريزة الأولى للكائنات الحية جميعها وليس الإنسان فقط، والطعام كان أهم غريزة للمسجونين، تأتي بعدها غريزة القتل من أجل البقاء، ففي بعض الأحيان يأكل السجناء من لحم بعضهم قطع صغيرة وهم أحياء، حتى إذا مات أحدهم أكلوه كاملًا، في ظل هذا الافتراس يأتي جورنج الشاب المثقف الهادىء إلى زنزانة في طابق متدني نوعًا، إذ يصله الطعام بعد أن يمر بأكثر من أربعين طابقًا كفتات ممتلئة بالبصق والتبول وغائط من هم في الطوابق العليا.

كل ما أراده جورنج إيفان ماساجو، هو أن ينتهي من أبحاثه للحصول على دبلومة مهمة في حياته المهنية، لذا يسخر منه شريكه العجوز تريماجاسي الذي وقع ضحية الاهتمام بالتفاصيل والنصب والاحتيال بسبب الترويج للأفكار الاستهلاكية، وهو ما أوقع به في السجن بعد أن ابتاع سكينًا فاخر تعرف عليه عن طريق الإعلانات التجارية، ومن بعدها وجد أن الشركة نفسها اصدرت نسخة مُعدلة من السكين نفسها، لذا كسر التلفاز وألقاه من الشرفة ليهشم رأس أحد المارة، فألقت السلطات القبض عليه.

يستنتج جورنج -الذى لم تظهر ردود أفعاله بعد- أن المكان الذي ألقى بنفسه به موبوء بعدة أمراض نفسية ومجتمعية تظهر في احتقار الطبقات لبعضها البعض، يفكر في عدد الطوابق وكيفية تقسيم الطعام بشكل متساوي على الجميع وفي طريقة لإقناع النزلاء بالتوزيع العادل للطعام؛ ولكن للمرة الثانية يقوم العجوز البرجوازي بإحباط رجاءه مؤكدًا أن الحياة هى أن تأكل أو تؤكل، ويمكن أن تأكل كثيرًا في الطبقات الأعلى، لكن عندما تسقط الأعباء فإن من يتحملها هم قاطني الطوابق السفلى.

وتتضح فكرة الفيلم في الثلث الثاني من الأحداث، بعد أن يواجه جورنج إحدى الموظفات في الإدارة والتي تعمل بها منذ 25 عامًا، ولكنها تشكو إهمالهم لها رغم تفانيها في العمل -مثل إصابتها بسرطان الثدي- وتواجدها حاليًا كشريكة زنزانة له. وبعد أن قتلت العجوز دفاعًا عن جورنج وتناولا قطعًا من لحمه، تهبط المائدة حاملة بقايا الطعام المقززة جالسة عليها امرأة آسيوية يقول عنها العجوز قبل موته إنها تهبط يوميًا لجميع الطوابق تبحث عن صغيرها، فيما تقنعه موظفة الإدارة أن السجن خالٍ تمامًا من الأطفال وأنها كاذبة.

الثورة
اتفق جورنج مع سجين أسود البشرة يُدعى بهارات على أن يُقيما العدل بتوصيل رسالة إلى الجميع بأن يتضامنوا لكي تحصل الطوابق الدنيا على حقها في كميات معقولة من الطعام عن طريق الصوم ليوم واحد فقط وترك المائدة كاملة لمن هم أدناهم، وفي طريقهما على المائدة الهابطة يواجهان ساكني الطوابق الرافضة للاقتراح، فيواجهان الموت والضرب وإسالة الدماء في مشاهد مُزعجة لأصحاب القلوب الرومانسية.

سوف تشاهد وتقابل معظم طبقات البشر الاجتماعية في رحلة الهبوط هذه، من الطابق صفر وحتى القاع، يتم تجهيز الطعام الفاخر للأثرياء حتى إن انتهوا منه تبدأ المائدة الضخمة في الهبوط، على مدار الرحلة تجد المتوسطين اجتماعيًا ثم الفقراء وصولًا إلى الجوعى الذين تحولوا إلى آكلي لحوم زملائهم، وفي الطوابق الدنيا ستجد جثثًا متراكمة على الجوانب. تفشل مهمة جورنج في إقناع أي من سجناء الطوابق، ولم ينجح سوى في الحفاظ على قطعة حلوى مغطاة بالبلاستيك يحاول أن يُعطيها إياهم وكأنها رسالة حب وتسامح.

أبرز المخرج جالدير جاستلو يوروتيا -والذى يعد الفيلم هو فيلمه الطويل الأول- فكرة (الاستياء والاستحقاق) ما بين استحقاق طبقة السلطة في الطوابق المرتفعة للرفاهية والطعام الجيد في مقابل استياء الطوابق الأدنى التي تصلها الفتات وبعضهم لا يصلهم شئ، بالإضافة لعدم امتلاك هؤلاء الفقراء التحكم في مصائرهم في رمزية شديدة الذكاء، إذ يستيقظ الجميع في أول كل شهر ليجد نفسه في طابق مختلف، ربما أعلى من طابقه أو انتقاله أثناء نومه إلى مستوى أدنى فتولد الكراهية والاحتقار بين طبقات المجتمع المختلفة؛ وفي صميم السياسة الطبقية يقوم جورنج بطل العمل بمحاولة الخلاص كما المسيح الذى حمل الممثل وجهًا وتصفيفة شعر يُشبهانه ودماء تغطي وجهه من فعل التعذيب الذي تعرض له على مر رحلة الهبوط بين الطوابق، مما صبغ السيناريو بلمحة روحانية تتمثل في أن هناك من يأتي لخلاص الفقراء من إذلال الأثرياء لهم عن طريق ترديد كلمة "الرسالة" في عدة مشاهد، أبرزها العثور على طفلة آسيوية مذعورة في الطابق الأرضي والأخير 333 -والذي يرمز في الثقافة الغربية إلى الملاك الحارس ورسائله المُطمئنة- فيتأكد من كذب موظفة الإدارة وانه بالفعل هناك أطفالًا يسكنون الحضيض، الفيلم ناجح في تقطير وإيضاح موضوعاته الأيدلوجية التي زخمت بها الأحداث بطريقة عاطفية أكثر إقناعًا من بث النظريات البحتة المباشرة للمتلقى.

وجهة نظر

إذا شاهدت الفيلم قد تندهش عن سبب وضع الطفلة على المائدة شبة الفارغة من الأطعمة سوى من الأطباق والأكواب الفارغة، والتي تستعد إلى الصعود، بعد أن أعطاها جورنج الحلوى الجيدة والتي أكلتها بنهم، ربما شعر أنه يريد التطهر بعد أن مرّ بوقت عصيب تنازل فيه عن مبادئه، كما يتخلص من إثم القتل أو تناوله لحوم زملاءه بدافع الجوع، ومعاشرته لفئة من الحثالة الذين يتبولون على بقايا طعامهم، وإن صح التفسير فان النهاية تشبه ما فعله (الفادي) للبشرية، بعد أن حمل آثامهم وترك لهم رسالته مع الطفلة التي صعدت بها الطاولة للأدوار العليا.