رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيزيت سالم تكتب: غيوم ضحى عاصي الفرنسية في سماء المحروسة

زيزيت سالم
زيزيت سالم

رواية (غيوم فرنسية) هي الرواية الثانية للكاتبة والروائية ضحى عاصي بعد روايتها الأولى (104 القاهرة) ومجموعتين قصصيتين ، الرواية يتناوب فيها أصوات الشخصيات مع الراوي العليم عبر قصة حب بين "فضل الله الزيات" و"محبوبة بنت جرجس غزال" المسيحيان القبطيان المرتبطان على طريقة الزواج المصرية التي لا يعترف بها الغرب .
صورت الكاتبة عبر خيال سردي شيق عما كان يدور بين مسلمو القاهرة وأقباطها في نهاية القرن الثامن عشر، جسدت العذاب والحرق والفناء الذي أوقعه المماليك والعثمانيون على المسيحيين بينما كان يرفض "فضل" هذا القهر مؤمنا بأن المسيح لا يرضى بهذا الذل، فينضم الى الفيلق القبطي المناهض للمماليك ويتدرب على السلاح والقتال في الجيش الفرنسي بقيادة "المعلم يعقوب" الذي هو بالأصل شخصية حقيقية وثار حولها جدل كبير في التاريخ المصري نتيجة تعاونه مع الحملة الفرنسية على مصر (1801ــ 1798)، وعندما تفشل الحملة يخيرهم يعقوب بين السفر معه الى فرنسا وبين البقاء بالقاهرة مع وعد بالأمان من العثمانيين والمماليك، وتحاول "محبوبة" أن تثنيه عن السفر ولكنها جملة واحدة ظل "فضل" يرددها (سأموت قهرا إن بقيت فلن أطأطئ رأسي لهم مرة أخرى بعد أن تعلمت أن أقول لا )، وترفض "محبوبة" وداعه ليسافر مع احساسه بالذنب ليموت المعلم يعقوب بعد أيام من إبحار السفينة المتجهة بهم الى فرنسا .
تطرح الكاتبة أزمات وأحلام وهواجس من سافروا مع يعقوب الى فرنسا وحالة الارتباك التي طالتهم نتيجة الصدام الحضاري والثقافي بين الغرب والشرق بكل تفاصيلها ومعاييرها، ومنهم "أبونا عبد الملك" الذي شغل نفسه بأحوال المسافرين ومحاولة لم شملهم ثم عودته للعمل كنجار متنقل بين المدن الفرنسية تحت ستار الرق من أصحاب العمل حتى تغيرت القوانين وصاروا أحرارا .
تتضمن الرواية أيضا خطابات تاريخية تطالب السلطات الفرنسية بالاستقلال المصري ممهورة بإسم (نمر أفندي) وهو اسم رمزي في النص، وتميزت الرواية أنها أثارت عدة قضايا منها قضية عدم اعتراف الغرب بالديانة القبطية، وقضية زواج المسيحي من المسلمة بأن يكتفي بنطق الشهادتين بينما لا يزال يمارس طقوسه الدينية المسيحية في حياته العادية، ثم قضية الهوية، هوية المهاجرين وتنازع انتمائهم بين وطنهم الأصلي والوطن المقيمين به .
برعت الروائية ضحى عاصي في وصف عدة مشاهد بحرفية سينيمائية عالية منها:
ــ مشهد الخازوق ص39 ، "كانت شبه عارية، شعرها الأسود ينسدل على ظهرها الحنطي، بدأ الجلاد يدق الخازوق بالمطرقة في دبرها، ويمرره بين عمودها الفقري وجلدها دون أن يمس قلبها أو رئتيها، تزداد نشوته كلما تعلو صرخاتها المحمومة الممزوجة بالألم وينتفض جسدها مع كل تمريرة حتى أخرجه من أعلى كتفها الأيمن" .
ــ مشهد حوار فضل مع فابيان عن قناعات الثورة والعدل ص 97 ، "لا أحد يتنازل عن سلطته طواعية ولا أحد يعطي رغيفه لغيره وهو جائع، لن يعطي السيد عبده الحرية طواعية، الأمور ليست بهذه المثالية، ولكن التجربة علمتني أن لكل شئ في الحياة وجها آخر شرسا ومدمرا" .
ــ مشهد قصة سندريلا من منظور جديد تماما ص 127 ، فقد اختارت سندريلا من عصر الفراعنة من فتيات منف الجميلات حيث تهدي الأم لابنتها قبل موتها حذاء نفيس من جلد الغزال، وعنما ترفض زوجة أبيها اصطحابها لحفلة الأمير تحزن سندريلا وترتدي الحذاء وتذهب الى النهر، فيخطف النسر فردة حذائها وهي تغسل قدميها في ماء النهر ليلقيه بين يدي الأمير .
ــ المشهد الحميمي الذي يجمع بين فضل وفرنسواز ص 141 ، "لأول مرة أتذوق امرأة، ولأول مرة أعلم أن للشفاه طعما ولأصابع القدم طعما آخر، فكيف للحب أن ينضج دون أن تلمس وتتذوق من تحب" .
ثم يأتي مشهد النهاية ص 276 حيث يرتاح فضل بقبول أبونا عبد الملك اعترافه ليزيح عن قلبه عبء خطيئته مع "فرنسواز" بعد كل هذه السنوات ليعود نقيا طاهرا متجمدا في مشهد ختامي مؤثر على حدود روسيا في نهر تريزنا، حيث يفقد الشعور بأطرافه، حيث روحه الطوافة العابرة للزمان والمكان، حيث ضحكاته في النيل في شمس المحروسة، حيث كل شئ سيصير بخير.