رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قُطّاع طرق الكمامات الطبية


طالما تشدق النظام الرأسمالى العالمى بالحريات والحضارة وحقوق الإنسان، لكنه ساعة الجد فضح نفسه فضيحة بجلاجل، وتكشف عن بلطجية وفتوات يحملون العصى والجنازير ويتخاطفون الكمامات من بعضهم البعض، ليحمى كل منهم أرباح الطبقة الثرية فى بلاده بأى ثمن، لهذا كفرت إيطاليا بالاتحاد الأوروبى، الذى لم يقدم لها مليمًا فى كفاحها ضد كورونا، بينما صرحت جونزاليس لايا، وزيرة خارجية إسبانيا بأن تركيا احتجزت طائرة قادمة من الصين إلى مدريد، واستولت على معدات طبية على متنها اشترتها إسبانيا لمكافحة كورونا! وقالت وزيرة الخارجية إنها خاطبت المسئولين الأتراك أكثر من مرة ولم تتلق سوى رد واحد: «الطائرة لن تغادر تركيا الآن».
يسمح الاقتصاد الرأسمالى، ليس فقط بسرقة عرق العمال فى زمن السلم، بل وبسرقة المعدات الطبية فى زمن الوباء. وفى هذا السياق لم يتخلف الأمريكيون، فقد قاموا بخطف شحنة من الكمامات كانت متوجهة إلى فرنسا، وذلك بالمزايدة على سعرها مباشرة على مدرج المطار الصينى! وقال مسئول فرنسى مهذب: «هناك بلد أجنبى دفع ثلاثة أضعاف ثمن الشحنة على المدرج»! لكن شكوى الفرنسيين ودموعهم لم تمنعهم من ممارسة البلطجة ذاتها، فقد اتهمت الشركة الطبية السويدية «مولنليك» الفرنسيين المهذبين بمصادرة ملايين الكمامات والقفازات الطبية التى لا تعود إليهم، ووجهت ألمانيا اتهامًا مماثلًا لأمريكا بالاستيلاء على مائتى ألف كمامة كانت برلين قد اشترتها لمكافحة الفيروس، وصرح مسئول سلوفاكى سابق بقوله: «قمنا بإعداد حقيبة تحتوى على أكثر من مليون يورو، وتأهبنا للسفر لتسلم الكمامات، لكن وسيطًا ألمانيًا وصل قبلنا وزايد على السعر واشترى الكمامات»!
أين الملاحم الغنائية عن الحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية وقبول الآخر والتضامن الإنسانى وكل ذلك الهراء اللفظى؟.. اختفى لحظة أن هددت عطسة صغيرة الاقتصاد الرأسمالى. والسبب الأساسى وراء حالة البلطجة والفزع هو انهيار وضعف القطاع الصحى فى نظم رأسمالية لم تول لا الصحة ولا التعليم حقهما من الإنفاق قط، حتى إن أمريكا، بجلالة قدرها، وجدت نفسها مضطرة إلى قبول «مساعدة إنسانية» من روسيا فى شكل طائرة عسكرية محملة بالأقنعة والمعدات الطبية، وفى الوقت ذاته فإن الموازنة المالية الأمريكية لعام ٢٠٢٠ - ٢٠٢١ أظهرت تخفيض ميزانية الصحة بنسبة ١٢ فى المائة، بما فى ذلك مخصصات البحث العلمى مع زيادة نسبة ميزانية التسليح والحروب!
ربما تكون أزمة كورونا قد ألقت الضوء الساطع على طبيعة النظام الرأسمالى العالمى، الذى ظل شعاره «الأرباح قبل الأرواح»، النظام الذى لم يضح فقط بالملايين فى حروب مصالحه الاقتصادية، بل ضحى بالملايين فى أوقات السلم بحرمانهم من حقوق التعليم اللائق والعلاج ودعم الثقافة والبحث العلمى، ثم يضحى الآن فى ظل كورونا، ومن دون أدنى خجل، بالملايين، معلنًا أن الأولوية للاقتصاد على لسان أردوغان وترامب وغيرهما. وتحكى طبيبة إسبانية من مستشفى مدريد أنه قد طلب منهم سحب أجهزة التنفس ممن تجاوزت أعمارهم خمسة وستين عامًا، وتخديرهم حتى الموت! وتقول إن الشىء الإنسانى الوحيد المتاح، الآن، للأطباء هو الإمساك بأيادى المحتضرين حتى يلفظوا أنفاسهم الأخيرة. وقد اقترح الجمهوريون الأمريكيون الحل ذاته، ترك كبار السن يموتون، وهو ما صاغه ترامب بقوله: «لا يمكن أن نسمح للعلاج بأن يكون أسوأ من المشكلة»، أى أنه لن يدع أرباح طبقة الأثرياء تتأثر لصالح حياة الآخرين، وحسب تقرير لصحيفة ديلى ميل البريطانية، فقد صدرت للأطباء فى لندن توجيهات من قبل الجمعية الطبية بنزع أجهزة التنفس الصناعى عن كبار السن لإنقاذ الأصغر سنًا.
هذا ما تقدمه الرأسمالية بإطلاق يد رأس المال فى السيطرة على القطاعات الاقتصادية الحيوية، وانسحاب الدولة من دورها فى الخدمات الأساسية. ترى لماذا لم تعد تصدح الآن أغنيات حقوق الإنسان والحضارة؟ وكف بلطجية الكمامات عن الغناء الجماعى؟.. لقد تبخرت كل أكاذيب الليبرالية، ما إن تمس عطسة صغيرة أرباح الرأسمالى، لهذا يظل يطالب الناس بالخروج إلى العمل، وفى ذهنه خروج الناس لاستمرار استغلالهم وتكبير أرباحه. ويتخيل البعض أن الوباء سيغير أو قد يغير النظام الرأسمالى العالمى نحو إدارة أكثر عدلًا، يتصورون ذلك، ولا شك أن أزمة مثل كورونا سيكون لها تأثير لكنه ليس التأثير الحاسم، لأن الأمل لا يفارق الرأسمالى لحظة فى مضاعفة أرباحه، ومن قبل لم تستطع الإنفلونزا الإسبانية وضحاياها خمسون مليون نسمة أن تدفع الرأسمالية إلى مراجعة قيمها وحساباتها. لا أظن أن النظام الرأسمالى العالمى سيتغير بفعل الوباء، لكنه سيتبدل فقط بالوعى والنشاط الاجتماعى الإنسانى، وما أحوجنا إلى ذلك التغيير فى اللحظة التى تكشفت فيها الرأسمالية عن بلطجية قطاع طرق المطارات للاستيلاء على الكمامات الطبية