رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيروس كورونا والعمالة غير المنتظمة


فى عام ٢٠٠٠ أطلق المنتدى الاجتماعى العالمى دعوة «الإنسان قبل الأرباح»، وذلك فى مواجهة العولمة الرأسمالية التى تدين بمبدأ «الأرباح قبل الإنسان». فمنذ ثمانينيات القرن الماضى تعانى شعوب من السياسات النيوليبرالية للرأسمالية العالمية، والتى من نتائجها تكدس الثروات فى يد قلة احتكارية على حساب الأغلبية من الفئات والطبقات الفقيرة والمهمشة، مما أدى إلى اتساع الفجوة الطبقية داخل البلد الواحد وأيضًا اتساع الفجوة بين البلدان الغنية وبلدان العالم الثالث الفقيرة أو النامية.

غزا فيروس كورونا كل الشعوب وانتشر فى كل بلدان العالم فاتخذت الدول إجراءات احترازية لا بد منها للوقاية من الفيروس والحد من انتشاره، منها حظر التجول، وعزل الناس المصابين فى بيوتهم، وإغلاق المدارس والجامعات والمقاهى والفنادق والنوادى وأماكن التجمعات ووقف الطيران المدنى والسياحة وإغلاق العديد من المصانع والشركات للحفاظ على حياة البشر، أدت هذه الإجراءات إلى توقف الملايين عن العمل وفى القلب منهم العمالة اليومية والمؤقتة، والتى تتحصل على قوت يومها مع إشراقة شمس كل صباح.

وتشير منظمة العمل الدولية إلى أن العمال هم الفئة الأكثر تضررًا فى العالم نتيجة لهذه الأزمة الناتجة عن اجتياح الفيروس بلدان العالم، وستزداد نسبة البطالة بشكل كبير، مما يزيد من عدم الاستقرار الأسرى والمجتمعى، وإذا انتقلنا لبلدنا مصر لوجدنا أن هناك نسبة كبيرة من العاملين يندرجون تحت ما يطلق عليه العمالة غير المنتظمة أى العمالة المؤقتة، والتى تشكل نسبة ٤٠٪ من قوة العمل فى مصر ومعظمها يعمل فى القطاع غير الرسمى «الذى ينتج ٦٠٪ من الناتج القومى الإجمالى». هذه العمالة لا تتمتع بأى حماية تأمينية ولا تأمين صحى ولا حد أدنى للأجور، ومعظمها لا يعمل بعقد، فالعاملون بعقد فى هذه الفئة لا يزيد على ٢٪ من العاملين فى المجتمع، والمؤمن عليهم لا تزيد نسبتهم على ٩٪ والخاضعون للتأمين الصحى ٢٪.

إن العمالة غير المنتظمة تمتد عبر ربوع مصر ومسئولة عن إعالة ملايين من الأسر، وتتركز هذه العمالة فى قطاعات كثيرة مثل: «العمال الزراعيون وعمال التراحيل والعاملون فى قطاع المقاولات والإنشاءات والباعة الجائلون والعاملون فى الورش الصغيرة وغيرهم من العاملين فى قطاعات الخدمات المختلفة، مثل المقاهى والمطاعم والمتاجر الصغيرة»، لذا لا بد من مشاركة المجتمع المدنى مع أجهزة الدولة وأصحاب الأعمال لدعم تلك الفئات وتوفير ما يغطى احتياجاتهم المعيشية الضرورية. لا بد من التكاتف والتعاون بين الجمعيات الأهلية والخيرية والتنموية والأحزاب والوزارات المختلفة لتقديم الدعم الاجتماعى لهؤلاء ولكل الفقراء فى هذه الأزمة، كما يجب أن يجتمع المجلس الأعلى للأجور؛ لتحديد حد أدنى للأجور والرواتب يكون ملزمًا للقطاع الخاص، وينبغى الإشارة إلى أن الدولة أقرت صرف ٥٠٠ جنيه للعاملين بقطاع العمالة غير المنتظمة للمسجلين رسميًا لدى القوى العاملة وهم ٨٠٠ ألف فقط فماذا بشأن الملايين غير المسجلين والذين يبلغ عددهم وفقًا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء قرابة ١٢ مليون عامل وعاملة.

لقد اتخذت الدول عدة قرارات نقدية ومالية توسعية لمواجهة الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا، منها تخصيص مبالغ مالية لدعم الفئات الفقيرة والمهمشة، ودعم المنظومة الصحية «التى ثبت عجزها فى معظم الدول» فى مواجهة جائحة الكورونا، والتخفيف عن المواطنين والشركات بتأجيل سداد الاستحقاقات الائتمانية من أقساط مدة ٦ أشهر، مع إلغاء الفؤاد وغرامات التأخير، وصرف إعانة بطالة، وتخفيض أسعار الفائدة على القروض لتشجيع الاستثمار مع دعم الشركات المتعثرة.

وفى مصر تم اتخاذ عدد من القرارات الصائبة التى تخفف من أعباء الأزمة الاقتصادية التى تسبب فيها فيروس كورونا، وإننا ما زلنا نأمل فى أن يتحمل القادرون مع الدولة مسئولياتهم الاجتماعية للتخفيف عن الفقراء والمهمشين، وأن تعلو القيم الإنسانية، وقيم العطاء والتآخى والتكافل والتعاون بين المصريين «والتى تظهر فى وقت الشدائد»، ونتمنى أن تعلو هذه القيم السامية على جشع وطمع تجار الحروب المستغلين الأزمات لتكديس الأموال والأرباح فى خزائنهم، وأن تضرب الدولة بيد من حديد على هؤلاء، وأود أن تكون هذه الأزمة فرصة لحصر العمالة غير المنتظمة بالتعاون بين وزارة القوى العاملة وبين وزارة التضامن الاجتماعى وبمشاركة الجمعيات الأهلية «٥٧ ألف جمعية» والهيئات العاملة فى مجال دعم الأسر الفقيرة والمرأة المعيلة، وتكون أيضًا فرصة لإعادة تأهيل وتدريب العمالة مع الاهتمام بزيادة ميزانية المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر؛ لتوفير فرص عمل ودخل ثابت للأسرة، مع اهتمام الدولة بتشجيع وتقنين النقابات العمالية لتوعية العمال والدفاع عن مصالحهم وبالذات العمالة غير المنتظمة.

جائحة كورونا نبهت الشعوب والحكومات إلى أهمية إعادة هيكلة الأنظمة الاقتصادية التى أدت إلى مزيد من الإفقار لدول وشعوب ومزيد من تردى الخدمات، بل واعتمدت على الصرف على السلاح بما فيها أسلحة دمار شامل لتدمير وقتل الإنسانية بدلا من الصرف على الخدمات والمرافق فى الصحة والتعليم والبحث العلمى، وتوفير السكن الصحى والغذاء الصحى والمياه النظيفة والصرف الصحى ووسائل انتقال آمنة، مع أجور عادلة للعاملين تكفى احتياجاتهم الضرورية هم وأسرهم.

إن الإنسانية جمعاء مدعوة للتكاتف والتعاون لمواجهة الكوارث والأوبئة من أجل عالم أفضل، عالم تسوده العدالة والمساواة والمواطنة والشراكة على أساس المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة.