رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«من بينها الرحلة».. 4 سير ذاتية تمتعت بجرأة البوح تعرف عليها

محمد شكري
محمد شكري

يغلب علي السير الذاتية العربية ــ علي قلتها ــ طابع الكتابة الفوقية٬ بمعني آخر تكتب علي بعد ومسافة شاسعة بين كاتبها بطلها وبين وقائعها٬ وكأن كاتب السيرة يكتب عن شخص آخر يريد له حياة لم يعشها بالفعل٬ وإنما صورة ذهنية تمناها. هذا لا ينفي أن هناك سير ذاتية تكاد تعد علي أصابع اليد الواحدة٬ التي تخلي أصحابها عن الخوف الذي فسر به الناقد المترجم "سيد إمام" ظاهرة كتابة السير الذاتية بــ "الشوكة والسكين" كما سألته ذات مرة.

من هذه السير التي تجاوزت خوفها "الخبز الحافي" للرائع محمد شكري٬ والذي حكي فيها بالتفصيل أدق دقائق حياته٬ خاصة الجانب المظلم منها٬ لم يخشي شكري الذهنية العربية وحساسيتها المفرطة أمام البوح المكاشفة وإيثارها الكتمان بل والإزدواجية في الغالب الأعم. كتب شكري عن أيام صعلكته وبؤسه وفقره المدقع التي قضاها خلال الشطر الأكبر من عمره٬ سمي الأشياء بمسمياتها٬ وحطم الغلالة الزائفة التي تضفيها الذهنية العربية علي الذات٬ قص شكري مغامراته الجنسية وكيف كان يسرق ليأكل وكيف عمل بأحط المهن٬ وكيف ظل لا يقرأ ولا يكتب حتي عشرينيات عمره٬ كيف طوحه السكر من الخمر الرخيصة٬ وكيف وكيف.. حتي أن الكثيرين حتي الآن يعتبرون سيرته مفتعلة ولم تحدث من الأساس.


كانت سيرة "شكري" دوما ما تحيرني كيف واتته الجسارة لكتابتها٬ ولماذا لم تتكرر مثلها أو حتي أقتربت من شجاعتها غيرها من السير الذاتية العربية٬ حتي قرأت "التاريخ الذي أحمله علي ظهري" لعبقري علم الإجتماع "سيد عويس" فرغم مرور ربع قرن علي قراءتي لسيرته إلا أنني مازلت أتذكر حكيه عن طفولته الفقيرة وجلبابه المليئ "بالرقع".لينضم إليهما فيما بعد أحد أبرز قادة الحركة العمالية في مصر٬ "فكري الخولي" في سيرته الذاتية المعنونة "الرحلة" والصادرة عن دار الكرمة٬ لينقل لنا فيها رحلة الشقاء الإنساني التي عاشها العمال المصريين٬ كعمال تراحيل في المصانع كما في الأرض. تلك المصانع التي تغذت ماكيناتها علي دماء آلاف العمال الذين ذهبوا طي النسيان.

لتجيئ اليوم سيرة رابعة أكثر شجاعة بطلها "خليل حسن خليل" والصادرة عن دار الكرمة للنشر في ثلاثة أجزاء٬ (الوسية٬ الوارثون٬ السلطنة) الشرقاوي الذي تحول من (تملي) في وسية الخواجة اليوناني حتي أصبح أستاذا للإقتصاد السياسي٬ ويعمل في الأمم المتحدة. لم يخجل خليل من أن يرسم بدقة مشهد أنتظاره إنصراف أنظار فراشي مدرسته الثانوية٬ ليجمع فتات الخبز المتبقي من زملائه٬ حتي يتمكن من سد جوعه لثلاثة أيام متواصلة لا يملك فيها طعاما سوي هذا الفتات.علي أن ما لفت نظري هذه المرة مع هذه السيرة٬ أكذوبة الإنفتاح والتسامح الذي تميز به المصريين وجو التعايش الذي جمعهم مع جنسيات وأديان أخري٬ من يونايين٬ طليان٬ أروام٬... ألخ هذه الجنسيات التي كانت مصر بالنسبة لهم البقرة التي أستحلبوها حتي جف ضرعها٬ ونضحت وجوههم بحمرة الترف والنعيم بإمتصاص دماء المصريين.