رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نماذج من أساقفة أمناء فى رسالتهم


اعتادت الكنيسة القبطية على أن تقرأ يوميًا على مسامع الأساقفة والكهنة والشمامسة والشعب- جميعًا دون استثناء- كتاب «السنكسار»، الذى يتضمن أعمال الشهداء وقديسى هذا اليوم من أجل المنفعة الشخصية، وذلك بعد قراءة كتاب «الأبركسيس»، أى كتاب «أعمال الآباء الرسل»، الذى عندما ينتهى الشماس من قراءته يقول: «لم تزل كلمة الرب تنمو وتعتز وتزداد فى كل بيعة يا آبائى وإخوتى»، أى أن كلمة الرب التى سمعناها فى أعمال الآباء الرسل الأولين ما زالت مستمرة وتعمل فى كل جيل من خلال الآباء الأساقفة والكهنة والشمامسة وأيضًا الشعب.

ولأن البابا كيرلس السادس- الراهب الناسك الذى عاش فى نسكه قبل رهبنته وفى فترة رهبنته وفى بطريركيته- أدرك أنه ينبغى أن تقام فى جميع الكنائس صلوات يومية وفيها يُقرأ كتاب «السنكسار»، لذلك كان يحرص على إقامة الصلوات اليومية ليستمع الجميع لأعمال آباء الكنيسة. ولكن- للأسف الشديد فى أيامنا هذه- تقام الصلوات اليومية فى الكنائس، بينما أسقف الإسكندرية وكثير من الأساقفة يخلدون للراحة!! عوضًا عن أن يقودوا الشعب فى الصلوات اليومية ويكونوا نماذج طيبة وقدوة حسنة لهم.

ففى اليوم الثانى من شهر برمهات، الذى يوافق ١١ مارس، احتفلت الكنيسة القبطية مع شعبها بتذكار شهادة الأنبا «مكراوى»، أسقف أشمون، نعم شهادة أسقف، وهذا ما كان يؤكده دائمًا البابا شنودة الثالث عندما كان يقوم بسيامة أى أسقف، فكان يقول عن فهم ودراية ووعى: «الأسقفية دعوة إلى الاستشهاد». أين هذا الشعور حاليًا بعدما تحولت الأسقفية فى كثير من الإيبارشيات إلى رئاسة دينية خالية من أى أبوة وخدمة روحية حقيقية وتعاليم نافعة نابعة من حياة داخلية صادقة؟.

كان الأنبا «مكراوى» من أكابر أهل أشمون جريس، ورُسم أسقفًا على «نقيوس». وحدث أن ثار اضطهاد على المسيحيين، فاستدعاه «يوفانيوس» الوالى للمثول بين يديه، وقبل أن يذهب إليه دخل إلى المذبح المقدس بالكنيسة ورفع يديه وصلى. ثم قام بوضع الأوانى الكنسية وملابس الخدمة الكنسية فى مكان بالهيكل. وصلى ثانية إلى الرب أن يحرس كنيسته، ثم توجه مع الرسل الذين أتوا إليه إلى الوالى، الذى تقصى منه عن اسمه ومدينته، وعلم أنه أسقف المدينة، فأمر بأن يُضرب ويُهان، وأن يُذاب جير فى خل ويُصب فى حلقه. ففعلوا به ذلك، ومع هذا حفظه الله ولم ينله أى أذى. وبعد ذلك أرسله هذا الوالى إلى «أرمانيوس» والى الإسكندرية. وهذا أودعه السجن فأجرى الله على يديه عجائب كثيرة، منها أن «أوخارسطوس» بن يوليوس الأقفهصى، مدّون أخبار الشهداء، كان مصابًا بمرض، فصلى عليه هذا القديس فشفاه الله بصلاته. وصلى للمتواجدين فى بيت يوليوس الأقفهصى واتفق مع يوليوس الأقفهصى على أن يهتم بجسده ويكتب سيرته، وبلغ إلى مسامع «أرمانيوس» ما يعمله هذا الأب المبارك من أعمال حسنة، فأمر بأن يُعذّب بأنواع كثيرة من العذابات، بأن يُعصر ويُلقى للأسود الضارية ويُغرق فى البحر ويوضع فى أتون النار، ولكن الرب كان يقويه فلم تؤذه تلك العذابات. وكانت لهذا القديس أخت عذراء تقوم بخدمة الكنيسة تُدعى «مريم» وشقيقان يدعى أحدهما «يؤانس» والآخر «إسحق»، فحضروا جميعًا إليه وهو فى السجن وبكوا أمامه قائلين: «لقد كنت لنا أبًا بعد أبينا، فكيف تمضى وتتركنا يتامى؟ فعزاهم وشجعهم وواساهم وطلب إليهم أن يمضوا بسلام». وأخيرًا أشار «يوليوس الأقفهصى» على الوالى قائلا: «أكتب قضية هذا الشيخ تسترح منه». فسمع لقوله وأمر بقطع رأسه، فأخذ «يوليوس» جسده ولفه فى لفائف فاخرة. ووضع صليبًا على صدره، وأرسله فى سفينة بصحبة غلمانه إلى مقر كرسيه فى نقيوس. فسارت السفينة حتى وصلت بلدة «أشمون جريس» ووقفت دون أن تتحرك كما لو كانت مربوطة بسلاسل، وعبثًا حاولوا تحريكها. وقد أعلموا أهل البلد بذلك فخرجوا إليهم حاملين سعف النخل، وحملوه بإكرام عظيم إلى بلدهم. وكانت جملة حياته ١٣١ سنة، منها ٣٠ سنة قسًا، و٣٩ سنة أسقفًا. هذا مثال رائع لأسقف شهيد، رجل صلاة وخدمة حقيقية وتعب حقيقى مع شعبه وأعماله تكشف عن صدق أقواله، بينما آخرون بدون أعمال ولا أقوال.

فى أيامنا هذه ظهر أسقف آخر يحمل فى داخله روح الاستشهاد وحياته اليومية استشهاد أمين فى إيبارشيته وهو الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا، الذى ارتبط به شعبه ارتباط الأبناء المخلصين بالأب المحب، على الرغم من وجود بعض المحاولات الفاشلة لتدمير هذا الارتباط المقدس، الذى يسعى نحوه البعض!!.. ما الذى قام به هذا الأسقف المبارك فى أيامنا هذه من أعمال رائعة؟ فى يوم الخميس ١٢ مارس ٢٠٢٠ أرسل رسالة خطيّة لشعبه تحت عنوان: «رجاء محبة» قال فيها: فى ظل هذه الظروف الطقسية السيئة، التى تتعرض لها البلاد، وما نتج عنها. نداء إلى كل من يحركه قلبه بالحنو والشفقة نحو الذين تشردوا والذين يفتقرون الآن إلى الطعام والشراب والدفء والمأوى والدواء. إلى كل من له أحشاء رأفة: أن اخرج إلى الشوارع والأرصفة والأزقة، وأسفل الكبارى، وقدم ما تستطيعه من العون لهؤلاء الذين ليس لهم أحد يذكرهم، شارك إخوتك واترك عنك الدفء الذى تنعم به وحدك، فهكذا كُتب عن إلهنا الحنون فى سفر أشعياء النبى: «فى كل ضيقهم تضايق». قدم لمسة محبة، سواء بالمال، أو بالطعام، أو الغطاء، بالمواساة، بكلمات التشجيع، والله ليس بظالم حتى ينسى تعبكم.. «أحسنوا.. ولا ترجوا شيئًا» كما ورد فى إنجيل القديس لوقا. ما الذى فعله الأسقف بنفسه؟ ‏قام الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا، بالتجول فى الشوارع- فى وسط مناخ سيئ للغاية- ومعه عدد من الشمامسة الخدام يتجولون فى الشوارع لخدمة المشردين- دون أى اعتبار لعنصر الدين- والذين ليس لهم مأوى، فهذا هو الوقت اللازم للخدمة الحقيقية، وقاموا بتوزيع بعض المأكولات والمشروبات وبعض الأموال لهم، فهناك العديد من الأسر الذين يعيشون كل يوم بيومه ويستهلكون قوتهم اليومى، فإذا حدث مكروه يمكن أن يمكثوا اليوم بأكمله دون مأكل أو مشرب، وربما أيضا لا يوجد لديهم ما يحميهم من قسوة الشتاء والبرد وسقوط الأمطار على رءوسهم، فبينما الكل مستريح فى منزله ويتصفح الإنترنت ولديه أكله وشربه وغطاؤه، هناك العديد يبكون من شدة البرد والرياح والجوع، وقام الأسقف الحقيقى باللازم وتجول فى الشوارع ليسد حاجة هؤلاء الأشخاص. وقد كشف الأسقف عن قصة السيدة، التى رفضت أن تأخذ منه «البطانية» خلال جولته على الأشخاص، الذين ليس لهم مأوى بمحافظة المنيا، فقال: «إن السيدة (فايقة) أثناء مرورنا على الذين ليس لهم مأوى، والذين يواجهون هذه الظروف المناخية الاستثنائية، تقابلنا معها وهى فى الستين من عمرها، إنسانة عفيفة النفس، رفضت أن تأخذ البطانية وهى لا تملك غطاءً، بل مجرد شال بسيط؛ ورفضت أن تأخذ عطية مالية، وإنما طلبت خمسة جنيهات فقط، ربما على سبيل البركة أو لكى لا تردّنا، وبرتقالة واحدة من اثنتين، وباكو بسكويت واحد من اثنين، كان المكان الذى تجلس فيه مبلّلًا بالماء، وكان البرد قارسًا بالطبع والهواء شديدًا. تركناها ونحن نشعر بأنها هى الأغنى». والتقى أثناء جولته رئيس مجلس المدينة محمد سيد، وفريق العمل المرافق له، والذين كانوا متواجدين طوال اليوم، لمتابعة مياه الأمطار وبقية المرافق، وقام كذلك العديد من الخدام فى مناطق متعددة بجولات تفقدية، تلبية للنداء الذى أطلقته المطرانية. أما فكره الرعوى فى الرعاية الأمينة- إزاء الفيروس المنتشر فى أيامنا هذه- فله مقال آخر فى العدد المقبل.