رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أليس» فى بلاد العجائب



«أليس» فى الفيلم الفرنسى الذى يحمل اسمها لم تكن عاهرة، فقد انحدرت تلك الفتاة من أسرة تنتمى للطبقة المتوسطة التى تحافظ على تقاليد وعادات محافظة، تزوجت وأنجبت طفلًا، وكانت أمًا وزوجة صالحة ترعى طفلها وتقوم بأعمال المنزل، وتعيش حياة هادئة غير صاخبة، ولم تكن تبالغ فى مظهرها ولا فى سلوكها، وتحيا حياة بسيطة لم تَتُق لغيرها ولم تَتُق لتغييرها بل قبلت بها وكان كل شىء يسير على ما يرام، أو هكذا ظنت أليس.
وفى أحد الصباحات خرج الزوج فى عجالة مودعًا زوجته وطفلهما وغاب طويلًا، بل اختفى تمامًا من المشهد الذى صنعه بنفسه ولم يجبره أحد عليه.. فقد اختار هو أن يكون زوجًا وأبًا، وهو الذى وضع أليس وولدها فى هذا الإطار.. إطار الزواج وكوّن معهما أسرة صغيرة عندما تقدم للزواج منها وأنجب طفلًا تركه رضيعًا مع أمه ربة المنزل، ولم يتجاوز الرضيع عامه الأول بعد ثم قرر الرحيل.. ظلت أليس تحاول الوصول لزوجها بشتى الطرق دون جدوى، فقد أغلق الزوج هاتفه مخلّفًا وراءه زوجة وطفلًا! وأثناء شراء أليس حاجات المنزل بعد أن أصبحت الأم المعيلة، أو الـ«single mother»، فوجئت بأن بطاقتها البنكية لا تعمل، وبمراجعة البنك وجدت أن رصيد حسابها أصبح بالسالب وأنها مديونة، وبيتها الذى يقلها وطفلها سيعرض للبيع فى المزاد خلال أسبوعين لأن الزوج قد سحب كل رصيدهما المشترك وأنفقه بالكامل.
جنّ جنونها وحاولت أن تعرف فى أى شىء أُنفقت كل تلك الأموال، لتكتشف أليس أن زوجها كان ينفق أسبوعيًا ما يقرب من ٧ آلاف يورو على العاهرات، وعندما نفد المال اختفى!
حاولت أليس أن تستعلم عن تلك البيوت التى كان يتردد عليها الزوج وينفق فيها أموالهما عبر الهاتف ففشلت، وكانت الوسيلة الوحيدة والمتاحة للدخول لتلك العوالم واكتشافها هو أن تحدد موعدًا لزيارة أحد هذه البيوت أو تلك الشبكات، وبما أن الزوج كان ينفق الكثير من المال فكانت الشبكة التى ذهبت أليس لاكتشافها تعد واحدةً من أكبر وأفخم الشبكات التى يتردد عليها الأثرياء ممن لديهم ذائقة أو نسق ومطالب خاصة تجعل الشخص ينفق فى الساعة الواحدة ما يزيد على الألف يورو.
مظهر أليس البرىء وهيئتها غير المتكلفة وغير الزاعقة جذبت السيدتين القائمتين على إدارة ذلك الكيان.. فذوق زبائن تلك الوكالة الباريسية الفاخرة التى تدير مستوى مختلفًا من الدعارة يختلف عن أذواق غيرهم من مرتادى الملاهى الليلية المعتادة فى شوارع باريس وبيجال.. وبالتالى ذهبت أليس لتختبر المكان، فاختارها المكان، والتقت فيه شابة آسيوية اكتشفت فيما بعد أن زوجها كان مغرمًا متيمًا بها، وأنها واحدة ممن أنفق الزوج عليهن أموالهما التى أهدرها بالكامل فى عام واحد!
رفضت أليس العرض السخى المقدم لها من تلك الوكالة فى بداية الأمر، فهى لم تمارس أى مهنة من قبل، لقد كانت فقط تلك الزوجة والأم الصالحة، فأن تتحول فجأة لفتاة ليل تؤجر بالساعة كان أمرًا مستحيلًا بالنسبة لها.. وحاولت تلك الفتاة التى حظيت بأموالها إقناعها باسترداد مالها الذى نهبه وسرقه منها الزوج من نفس المكان وبنفس الطريقة التى ذهب بها المال لذات المكان ولنفس الوكالة! ومع ضيق الوقت واختفاء الزوج وضياع كل ما لديها ووجوبية طردها من بيتها هى وطفلها خلال أيام رضخت أليس لتلك التجربة، وكانت بالفعل تجربة جديدة أدخلتها إلى عوالم لم تكن تعرف أو تتخيل وجودها.. وعايشت أليس تلك التجربة مع رجال مثل زوجها ينفقون الأموال الطائلة نظير قضاء ساعة مع امرأة لا يعرفونها ولن يلتقوها مرة أخرى!
وانهالت الأموال على أليس واستطاعت سداد مديونية البنك.. وفى غضون ذلك ظهر الزوج.. وجدته أليس فى أحد الأيام جالسًا على أريكة البيت طالبًا منها الغفران، وأنه يحتاج إليها ويطلب فرصة جديدة لأنه مشتت ولا يستطيع العيش بمفرده.
عودة ذلك الزوج الضال المتأخرة جاءت بالفعل متأخرة، فقد مُنحت أليس ولأول مرة فى حياتها فرصة أن تختار بنفسها لنفسها حياةً جديدة.. حياة لا تأخذ الكثير من وقتها فى حين تمنحها المال الوفير وتشعرها بأنها ليست أقل من أولائك النساء اللاتى أنفق عليهن الزوج أموالهما.. وفى حوار دار بينهما، اكتشفت أليس أن زوجها كان يراها زوجة عادية ومملة فى حين أدمن هو الانحراف مع العاهرات مع والده منذ أن كان عمره ١٣ عامًا.. ولكن أليس لم تعد تلك الزوجة العادية المملة بل صارت واحدة من هؤلاء النساء اللاتى يتوق لهن الرجال ويخُونون زوجاتهن معهن بحجة أنهن أكثر إثارة!
بل وتفوقت أليس على بعضهن وصارت تُطلب من صفوة الأثرياء، لا لأنها عاهرة متبرجة رخيصة، بل لأنها سيدة تبدو عليها البراءة ويبدو الرقى على ملامحها، وهذا ما يتوق إليه الرجل الثرى الذى ملّ زوجته ويريد أحيانًا تغييرها أو استبدالها بغيرها ولو لساعة واحدة على سبيل التجديد، ولمجرد كونها امرأة جديدة ومختلفة عن زوجته التى زهدها واعتادها ولم تعد تشبعه أو تغويه.
ظل الزوج فى حيرة من غياب زوجته المتكرر لساعات متأخرة، وعرف من البنك أنها سددت مديونية البيت فى وقت قياسى، فتتبع هاتفها وعرف أنها صارت تعمل لدى نفس الوكالة التى أهدر هو من قبل على نسائها أموالهما، فجنّ جنونه وطلب من زوجته أن تعود للطريق القويم القديم الذى نفر هو منه فى السابق وجعله يهرب!! بل وطلب منها إبداء ندمها على ما فعلته بنفسها وبيتها وطفلها فى حين لم يندم هو على ما فعله! لقد أدانها الزوج ولم يُدِن نفسه، وبرر لنفسه ما كان يفعله وأن ما فعله كان بدافع الإدمان وما اعتاد عليه منذ مراهقته، وأنه مريض يطلب الآن المساعدة، فى حين أنه لم يساعدها هو يومًا فى شىء بل خذلها وخذل نفسه وطفلهما الرضيع، ولم يسأل ذلك الزوج نفسه سؤالًا جوهريًا مفاده: لماذا تزوج هو منذ البداية من تلك الفتاة المحافظة وأنجب منها طفلًا وكوّن أسرة وهو يعرف إدمانه ارتياد بيوت الدعارة ومصاحبة العاهرات، وأنه غير مؤهل للحياة الأسرية وأن يكون زوجًا مخلصًا وأبًا مسئولًا؟!
جاءه رد أليس كالصاعقة.. وأنها راضيةً تمامًا عن نفسها وغير نادمة، وأن تلك التجربة منحتها القوة والاستقلالية، بل وصار لديها المال الوفير والوقت أيضًا لتعتنى بنفسها وطفلها بعيدًا عن حياة البيت الرتيبة، بل ولم تعد تحب أليس زوجها الأنانى لأنها أحبت نفسها وأنقذت بيتها وطفلها واحتقرت الزوج غير المسئول واحتقرت خذلانه لهما.. فوضعها الزوج مجددًا فى موقف حرج وهددها بسحب حضانة الطفل لأنها أم غير صالحة وأن القانون الفرنسى سيكون فى صفه!! فهى أم غير مسئولة لأنها تمارس الدعارة فى حين أنه الأب الصالح الذى أنفق كل ما يملك على العاهرات، وبالتالى تنتقل الحضانة له وتحرم الأم من رضيعها!
استطاعت أليس أن تحتفظ بطفلها بعد أن أوحت بل أوهمت الزوج بأنها ستترك العمل فى تلك الشبكة وستعود لتربية طفلها فقط وسيعود كل شىء كما كان كسابق عهده، واستغلت سفره لتولوز لعدة أيام، إذ يعمل الزوج أستاذًا جامعيًا هناك! وقامت بنقل أثاث البيت بعد استرداده من البنك وتسديد الدين فى موعده وفرّت مع ابنها وصديقتها الآسيوية، وعاشت المرأتان سويًا مع طفل أليس فى بيت جديد، وبدآ معًا حياةً جديدة، وتوقفت كلتاهما عن العمل فى وكالات الدعارة، وصارت أليس أمًا مستقلة تربى ابنها وحدها، والتحقت صديقتها بالجامعة التى كانت تحلم بها ولم تكن تستطيع سداد كلفتها لانحدارها من أسرة فقيرة.
قد يعتقد البعض أن الفيلم يقدم دعوة أو يبرر عمل المرأة فى مهنة الدعارة.. وأثيرت تلك القضية بالفعل عند عرض الفيلم فى فعاليات مهرجان أسوان لسينما المرأة فى دورته الرابعة، فى حين أرى أن الفيلم الفرنسى يناقش ويطرح ما هو أعمق من فكرة ممارسة المرأة الدعارة.. فالفيلم يطرح إشكالية فى القانون الفرنسى الوضعى، الذى يعتبر الأم العاهرة لا تصلح لحضانة ابنها فى حين يعتبر نفس القانون الزوج المنحرف غير المسئول أو المهووس جنسيًا أبًا يصلح لتربية طفله!
فالفيلم ينتصر، فى رأيى، لفكرة العدالة والمساواة فى إدانة الطرفين، وينتصر فى نفس الوقت للمرأة القوية ونموذج المرأة المنتصرة غير المنبطحة التى لا تقبل بالأمر الواقع ولا تستمرئ عدم الصراع.. فقد فعلت أليس كل ما فى وسعها لاسترداد مالها المهدر وبيتها الذى تريد تركه لولدها.