رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدور الأمريكى فى أزمة «سد النهضة»


دخول السودان على خط الأزمة زاد مشكلة «سد النهضة» تعقيدًا، ما فرض الاستمرار فى تناولها للأسبوع الثانى على التوالى.. لكن أى تناول لموقف السودان الشقيق ينبغى أن يراعى خصوصية العلاقة بين الشعبين والدولتين، لأن الأزمات مهما طالت وتعقدت فهى طارئة ومرحلية، لا ينبغى أن نترك من الرواسب ما يعوق مستقبلًا عودة المياه إلى مجاريها.. تعقد الأزمات ينتج عادة عن مزايدات بعض المسئولين الذين يعانون قصورًا فى الرؤية.
الأمين العام لهيئة الطاقة والكهرباء، تيجانى آدم، يرفض تدويل قضية «السد»، ويرى أن «إثيوبيا أصل النيل، فدع شعبها يأخذ احتياجاته، والباقى للسودان ثم مصر»، سفير السودان فى أديس أبابا مختار بلال يزعم أن «السد لا يؤثر على حصة السودان من المياه».. وللأسف فإن انتشار هذا التوجه يرجع إلى عدة عوامل.. أولها: المصلحة الذاتية التى يحققها «السد»، فهو يوفر للسودان حاجته من الكهرباء بسعر منخفض بموجب اتفاق أكتوبر ٢٠١٩، ويقضى على مخاطر الفيضان، كما يضيف مساحات قابلة للزراعة.. ثانيها: تأثير الدور الإثيوبى فى التوصل إلى مصالحات داخلية فى البلاد، ما يفسر ما يحظى به «أبى أحمد» من قبول سياسى وجماهيرى بالسودان.. ثالثها: تأثير التيار المعادى لمصر وادعاؤه معاملة السودانيين بتعالٍ، مغفلًا استضافتها ٥ ملايين سودانى يعاملون أسوة بالمصريين، وأخيرًا: تزامن إيقاع الأزمة مع بعض الضغوط التى احتملها السودان لإنهاء المقاطعة الاقتصادية، ورفع اسمه من قائمة الإرهاب.
ملابسات إصدار قرار الجامعة العربية الخاص بملف «السد» تُجَسِّد المأساة، مصر تقدمت بمشروع القرار للتضامن معها ومع السودان ومراعاة مصالحهما كدولتى مصب، ووافت الخرطوم بالمسودة للتشاور، لكن السودان طلب رفع اسمه من القرار، لأنه يراه ضد مصلحته، وقام بمحاولة فاشلة لتعديله على نحو يفرغه من مضمونه، ثم تحفظ عليه، رافضًا تدخل الجامعة العربية فى الأزمة.. قبلها رفض التوقيع على اتفاق واشنطن.. وأبى التفاوض إلا بحضور الأطراف الثلاثة.. إثيوبيا أشادت بالموقف السودانى.. ومصر نددت بالموقف الإثيوبى، دون تعرض للسودان.. فالقاعدة هى أنه مهما كان الموقف السودانى، فإن على مصر احتواءه، وإجهاض أى محاولة لتعميق الخلافات معه.
المسئولون الإثيوبيون بدأوا يجاهرون بعنتريات لا علاقة لها باحترام القواعد القانونية، ولا بالالتزامات الدولية: «الأرض أرضنا.. والمياه مياهنا.. والمال الذى يبنى السد مالنا، ولا توجد قوة على وجه الأرض تمنعنا من بنائه، وسنبدأ ملء السد اعتبارًا من فيضان هذا العام ٢٠٢٠».. استفزاز بالغ الحماقة، يتجاهل القواعد المنظمة لأوضاع السدود على الأنهار عابرة الحدود.. ووزير الخارجية، جدو أندرجاتشاو، اتهم واشنطن والبنك الدولى بتجاوز دوريهما كمراقبين فى مفاوضات السد، متجاهلًا أن دوريهما وفقًا لإعلان المبادئ وسيطان وليسا مراقبين، وأن انخراطهما فى المفاوضات وصياغتهما المسودة تم بموافقة أطراف الأزمة.. البعض طالب بخروج مصر من «إعلان المبادئ» الموقع بالخرطوم مارس ٢٠١٥، ردًا على الموقف الإثيوبى، لكن ذلك يغفل حسابات المكسب والخسارة.. فالمادة الخامسة من الإعلان تقضى بضرورة الاتفاق على قواعد ملء السد وتشغيله قبل بدء الملء، بما يمنع أى أضرار على دولتى المصب، ولذلك فهى تمنع إثيوبيا من ملء «السد» دون موافقة مصر، كما أن المادة العاشرة تعطى مشروعية للاحتكام إلى وسيط دولى، وتجعل قراراته المتعلقة بتحديد قواعد الملء والتشغيل ملزمة للجميع، وبالتالى فإن «الإعلان» يضفى طابع الإلزام القانونى على «اتفاق واشنطن».. ولكن السؤال الذى يفرض نفسه، هل لدى الولايات المتحدة الاستعداد لترجمة الاتفاق إلى واقع على الأرض؟!.. ذلك هو المحور المحدد لمستقبل الأزمة.
الحقيقة أن استعراض الدور الأمريكى فى بناء «سد النهضة» يحدد مقدار مسئوليته، وحدود قدرته فى الضغط على إثيوبيا.. فالخارجية الأمريكية لم تتحمس منذ البداية للتدخل فى الأزمة، بل تجنبت التورط فى وساطة، قد تعيد التذكير بدورها التاريخى فى المشروع، «السد» نتاج عمل بعثات علمية، قام بها باحثون أمريكيون بتمويل من المخابرات المركزية، عقب تأميم قناة السويس ١٩٥٦، ردًا على لجوء جمال عبدالناصر إلى الاتحاد السوفيتى، لتمويل بناء السد العالى وتسليح الجيش، لكن إثيوبيا اضطرت لوقف المشروع بعد رسالة عبدالناصر الحازمة بأن مصر تعتبره «تهديدًا للحياة، مما يستدعى تحركًا مصريًّا غير مسبوق».
إثيوبيا بعد تبوء ميليس زيناوى السلطة ١٩٩١، أصبحت الحليف الاستراتيجى الأول لأمريكا فى مواجهة جماعات التطرف والإسلام السياسى بالقرن الإفريقى.. قررت تنفيذ المشروع فى موقعه الحالى ٢٠٠٩.. تسريبات ويكيليكس أكدت تلقى زيناوى معلومة استخبارية حول استعداد مصر لقصف موقع «السد»، ما يفسر اتهامه القاهرة بالتخطيط للحرب أواخر ٢٠١٠.. وبمجرد سقوط مبارك ٢٠١١، وضع حجر الأساس لـ«السد» بسعة تخزينية ١٤ مليار متر٣، قبل رفعها إلى ٧٤ مليارًا بعد ثورة ٣٠ يونيو وسقوط الإخوان.. الشركة العسكرية الإثيوبية تولت التنفيذ بالشراكة مع شركة «Spire Corp» الأمريكية، التى وفرت التوربينات والمولدات والمعدات الكهربائية.. نائب رئيس المركز الإقليمى لعلوم الفضاء بالأمم المتحدة، كشف عن الدور الذى لعبته الولايات المتحدة فى التشويش على الصور التى يلتقطها القمر الصناعى الأمريكى «land sat 8» للسد، حتى لا تتابع مصر مراحل البناء وتفاصيله.
بعد وصول آبى أحمد الحكم، أبريل ٢٠١٨، تباهى بأنه «فى الوقت الذى قللت فيه واشنطن دعمها لكل الدول الإفريقية، فإنها عززت مساعدتها لإثيوبيا»، حتى وصلت إلى ١.٧ مليار دولار من البنك الدولى ٢٠١٨، فى الوقت الذى لم يتجاوز ما حصلت عليه مصر من مساعدات عسكرية ١.٣ ةمليار دولار.. وخلال زيارة أبى أحمد إلى واشنطن أغسطس ٢٠١٩، كُلِفَ بمهمة تسوية النزاعات الإقليمية فى القرن الإفريقى وشرقى القارة، وحصل على وعود بتوفير دعم دولى للإصلاح الاقتصادى، وتسهيلات تتعلق بمشروع «سد النهضة»، وتنشيط التجارة، للحد من الاحتكار الصينى.
مع تصاعد أزمة السد، وتهديدها بالمواجهة، اضطر البيت الأبيض للتدخل، مكتفيًا بإرسال وفد محدود المستوى من الخارجية برئاسة Eric Stromayer نائب مساعد الوزير للشئون الإفريقية، لزيارة الأطراف الثلاثة للأزمة لتكوين نظرة متكاملة، وتحديد نقاط الاتفاق التى يمكن الانطلاق منها.. والواقع أنها مهمة بالغة الحساسية؛ فمصر حليف استراتيجى لأمريكا بمنطقة الشرق الأوسط المضطربة، وإثيوبيا تحتل موقعًا مهمًا ضمن ولاية القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا AFRICOM، ما يفرض تجنب التعارض بين توجهات واشنطن، والمواقف السياسية لأى من الدولتين، خاصة تجاه قضية بأهمية «سد النهضة».. البيت الأبيض كلف وزارة الخزانة بالوساطة، ولم يكلف الخارجية، رغم الطبيعة السياسية للأزمة.. الخزانة وجهت دعاواها لوزارات الخارجية فى الدول الثلاث!.. وعندما تغيبت إثيوبيا عن المباحثات، تناول الأمر معها بالبحث مايك بومبيو، وزير الخارجية، رغم عدم مشاركة وزارته فى جولات المباحثات!، وتزامن ذلك مع مشاركته فى القمة ٤٢ للقوات البرية الإفريقية بالعاصمة الإثيوبية ٢١ فبراير، حيث أبدت الولايات المتحدة قلقها بشأن الصومال، التى تضطلع إثيوبيا بالدور الرئيسى فيها، ما عزز موقفها أمام بومبيو.
الأمر إذن يتضمن الكثير من اللبس، ويطرح بعض الشكوك، فالخارجية الأمريكية لها سياساتها ومواءماتها التى تغيب ولا شك عن وزارة الخزانة، ما يفرض التساؤل: هل تم توزيع الأدوار بين المؤسسات الأمريكية على هذا النحو لإرضاء جميع الأطراف؟! القاهرة كانت تأمل فى تدخل وسيط دولى، ووزارة الخزانة قامت بذلك الدور، بصورة إيجابية ومحايدة، لإعطاء مظهر التدخل لتذليل العقبات التى واجهتها مصر إبان عملية التفاوض، بشأن أمنها المائى.. وإثيوبيا كانت تتحفظ على تدخل أى طرف دولى، حتى إنها قامت بإنهاء مهمة لجنة الخبراء الدوليين فى بداية التفاوض، لذلك ربما أتاحت المفاوضات لها ممرًا آمنًا للانسحاب، مع تقييد رد الفعل الرسمى الأمريكى تجاهها، ما يبقى على تجميد الموقف واستمرار الأزمة.. فى الأزمات الدولية، نظرية المؤامرة غالبًا ما تكون هى الأقرب إلى الواقع.
الخلاصة، إن كل مقومات التأثير الفعال- إلى حد القدرة على التوجيه- لواشنطن على أديس أبابا متوافرة، ولا يوجد أدنى مبرر لتصور عجزها عن تمرير اتفاق واشنطن، وإلزام إثيوبيا بتوقيعه، إلا لو كانت قبلت طلب الجانب الإثيوبى بمهلة لتوقيعه بعد انتخابات يوليو، ما سيتزامن مع بدء الملء، وتكون إثيوبيا قد فرضت بذلك الأمر الواقع المرير، بمهارة المماطلة وحسن الخديعة.. ولا ينبغى أن نربط بين حسم هذه القضية لصالحنا وبين قدرتنا على تدبير وتعويض نقص المياه من خلال خطة الطوارئ، لأن هذا الربط قد يدفع للتراخى، ما قد ينعكس على تموضعنا الجيوسياسى فى الإقليم، وهو موضوع يستحق منا كل الاهتمام، حتى تتبوأ مصر موقعها المستحق.