رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القديس المتجدد.. ذكريات خاصة عن البابا كيرلس


أشعر بسعادة غامرة عندما أجلس لأسجل ذكريات عزيزة جدًا عن قديس القرن العشرين البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦، الذى تحل ذكراه العطرة فى ٩ مارس من كل عام، هذا الذى رأيته بعينىّ، وسمعته بأذنىّ ولمسته يداى. ينتمى البابا كيرلس السادس إلى عائلة «زيكى» التى نزحت من «الزوك الغربية» فى صعيد مصر فى أواخر عهد المماليك، إلى بلدة طوخ النصارى بالمنوفية. كان والده «يوسف عطا» يعمل لدى أحد كبار المُلاك وكيلًا عامًا لجميع أعماله بالغربية والمنوفية والبحيرة، ثم استقر فى مدينة دمنهور، وفى ٢ أغسطس سنة ١٩٠٢م أنجب ابنه الثانى «عازر»، الذى صار فيما بعد البابا كيرلس السادس، وجعل من بيته مقرًا لاستضافة الآباء الرهبان، الذين وجدوا كل الترحيب وكرم الضيافة من أهل البيت، ومن هنا ارتبط الطفل عازر بالآباء الرهبان، لما سمعه منهم عن حياة الآباء قديسى الكنيسة وحياة التقوى والقداسة بالأديرة المصرية.


انتقلت أسرة الوالد يوسف عطا إلى الإسكندرية، حيث عمل وكيلًا لدائرة «أحمد يحيى باشا». وكانت الدائرة مركزًا من مراكز الحركة الوطنية، ومقرًا لرجال الوفد بالإسكندرية، وكان للشاب عازر دور فى هذا المجال الوطنى، فأظهر فيه حبه للوطن وتفانيه فى خدمته. بعد أن أتم دراسته الثانوية التحق بشركة «كوكس شيبنج للملاحة» (حاليًا مبنى البنك الأهلى بشارع صلاح سالم بالإسكندرية)، كان العمل بالشركة يبدأ فى التاسعة صباحًا، فكان الشاب عازر يتوجه صباحًا إلى الكنيسة المرقسية بالإسكندرية- على مقربة من مقر الشركة- ثم يتوجه إلى الشركة فى الموعد المحدد دون تأخير، التزامًا منه بمواعيد العمل والتزامًا أيضًا بالانتظام فى العبادة الصادقة، كان الشاب عازر يُعد نفسه للحياة الرهبانية، فكان يقضى وقت فراغه فى الكنيسة مواظبًا على حضور الصلوات بها، ويمضى الليل فى حجرته الخاصة ساهرًا يطالع الكتب المقدسة أو مصليًا، أعد حجرته بطريقة خاصة تشبه قلاية الراهب فى الدير، حيث البساطة فى ترتيب الحجرة وإعدادها لحياة الصلاة الدائمة.
وفى يوم من الأيام تلقى شقيقه الأكبر «حنا» مكالمة تليفونية لمقابلة مدير عام الشركة التى يعمل بها شقيقه «عازر»، وعندما توجه لمقر الشركة، أبلغه المدير بأن عازر قدم استقالته، التى جاءت فى عبارة موجزة: «بما أن لدىّ أعمال هامة لا يسعنى أن أتخلى عنها، فلذلك أقدم استقالتى من العمل، وأرجو أن يتم قبولها حتى نهاية يونيو ١٩٢٧»، لكن لم يعلم المدير ولا شقيقه سر هذه الاستقالة، على الرغم من مركزه الممتاز بالشركة ومحبة الجميع له.
فى المساء التفت العائلة حول الشاب عازر وسألوه عن سر الاستقالة فقال: «أيهما أفضل حياة البر والقداسة والسعادة الحقة، أم حياة الشقاء والكد والتعب فيما لا ينفع؟، وماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطى فداء نفسه؟». صمد الشاب عازر أمام والديه وإخوته، الذين حاولوا إثناءه عن عزمه، تحقق له ما أراد وتوجه إلى دير البراموس بوادى النطرون فى صباح ٢٧ يوليو سنة ١٩٢٧. وبعد رحلة سفر طويلة وصل الدير نحو الساعة الثامنة مساءً ومعه الراهب بشارة البراموسى «فيما بعد الأنبا مرقس مطران طهطا وأبوتيج». أرشده أمين الدير إلى القلاية المخصصة له ليقيم فيها، فقام بإعدادها أفضل إعداد، كما أنه انتظم فى الصلوات اليومية بالدير مع بقية الرهبان، وفى الدير تتلمذ على يد أحد شيوخ الدير وهو القمص عبدالمسيح المسعودى من الآباء المتبحرين فى العلوم الكنسية، وله العديد من المؤلفات التى تُعد مرجعًا هامًا حتى يومنا هذا. شجعه الأب المرشد على إصدار مجلة دينية باسم «ميناء الخلاص»، فكان يكتبها بخط يده وكان عدد النسخ لا يقل عن خمسين نسخة، مكونة من اثنتى عشرة صفحة، وكانت تصدر شهريًا لعدة سنوات. بعد أن اطمأن شيوخ الدير على قوة عزيمته فى تحمل مطالب الحياة الرهبانية من صبر وجلد ونسك وصوم وصمت وطاعة وزهد فى المناصب، زكوه جميعًا ليكون راهبًا بينهم، فتمت رهبنته فى يوم ٢٥ فبراير سنة ١٩٢٨ «وكان اليوم يوافق استشهاد مينا الراهب»، وتمت طقوس رهبنته ودعوا اسمه «مينا البراموسى»، ومنذ ذلك الوقت وضع لنفسه قانونًا التزم به طوال حياته «أن يحب الكل، وهو بعيد عن الكل». فى عام ١٩٣٢ طلب من آباء الدير السماح له بحياة الوحدة، وفعلًا توحد فى مغارة تبعد عن دير البراموس مسافة ساعة سيرًا على الأقدام، وهى عبارة عن متسع ٦ أمتار فى ٨ أمتار نقر فى الصخر لعمق ثلاثة أمتار. عندما توجه إلى المغارة أخذ تعهدًا من رهبان الدير بألا يزوره أحد أو يهتم به أحد، كما تعهد بالحضور إلى الدير مساء كل سبت للاشتراك فى الصلوات حتى صباح الأحد، ثم يعود إلى وحدته مرة أخرى، فى عام ١٩٣٣ زاره فى مغارته د. حسن فؤاد، مدير الآثار العربية فى ذلك الوقت، ومعه مدير كلية اللاهوت بنيويورك، فحدثهما الراهب مينا عن الرهبنة القبطية ومؤسسى الرهبنة، وعند انصرافهما أعطاه السيد مدير الآثار بطاقة التعريف الشخصية. ثم زاره بعد ذلك فى مغارته البابا يؤانس ١٩ البطريرك ١١٣ ومكث معه بعض الوقت.
حدثت بعد ذلك أحداث أدت إلى أن يستأذن الراهب مينا المتوحد من البابا يؤانس بأن يسمح له بالسكنى فى طاحونة هواء على مرتفع من جبل المقطم يطل على القاهرة. وبينما هو يتجول بين الطواحين سأله الغفير المنوط بحراستها عمَّا يرغب فيه. ولما عرف قصده أبلغه بأنها من مخلفات المماليك وهى تابعة لمصلحة الآثار العربية، وممنوع قطعيًا لأى شخص أن يسكن فى إحداها ما لم يحصل على إذن من مدير المصلحة نفسه. وفى اليوم التالى قصد الراهب مينا المتوحد مصلحة الآثار وقدم كارت د. حسن فؤاد للساعى الواقف ببابه، وقال له: «من فضلك قل للسيد المدير إن من أعطيته هذا الكارت يرجو مقابلتك»، وكم كانت دهشة الساعى كبيرة، إذ رأى مدير الآثار يخرج بنفسه ويعانق الناسك المتوحد بحرارة ويدخله إلى مكتبه. وما إن عرف مطلبه حتى كتب خطابًا إلى الغفير يطلب فيه أن يدع الراهب العابد يتخير الطاحونة التى يريدها ويقيم فيها. وقد أعد مدير الآثار عقدًا معه لحمايته من أى مضايقات فى المستقبل. وكان الراهب مينا المتوحد قد اختار طاحونة لا سقف لها ولا باب! وبمعاونة بعض القاطنين بالمناطق المحيطة تم بناء سقف للطاحونة وفوقه دور ثان، ليكون كنيسة صغيرة، كذلك وضعوا لها الباب والنوافذ اللازمة.
بجبل القلمون يوجد دير باسم الأنبا صموئيل يرجع تاريخه إلى العصور الأولى، ثم انطوى هذا الدير فى طى النسيان، إلى نحو منتصف القرن العشرين، وأراد الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف، أن يعيد تعميره، فقصد إلى الأنبا يوساب، مطران جرجا، وكان فى ذلك الوقت «قائمقام بطريرك» وأطلعه على رغبته، فاقترح وضعه تحت رئاسة الراهب القس مينا المتوحد، فوافقه الأنبا يوساب على طلبه، وعلى ذلك قصد الناسك إلى الدير ووجده فقيرًا، لا أوقاف له، وبه عدد ضئيل من الرهبان، فبدأ بتعميره وأقبل إليه عدد من الشباب الجامعى للرهبنة، تحت رئاسة الراهب القمص مينا المتوحد، وفى عام ١٩٤٨ توجه الصيدلى يوسف إسكندر، الذى ترهبن باسم الراهب متى الصموئيلى «فيما بعد القمص متى المسكين»، وكانت جميع مراسلات الدير باسم «القمص مينا البراموسى المتوحد»، وبعد أن اطمأن على دير الأنبا صموئيل عاد إلى طاحونته بالجبل.
بنشوب الحرب العالمية الثانية طلب منه قائد الجيوش البريطانية أن يترك الطاحونة، فنزل من الجبل وبمعاونة بعض محبيه تمكن من شراء أرض مساحتها ٥٠٠ متر مربع بمنطقة مصر القديمة فى عام ١٩٤٧، أقام عليها كنيسة باسم القديس مينا العجايبى «ما زالت قائمة إلى الآن أمام محطة مترو الزهراء»، وبجوارها سلسلة من الغرف بعضها لتعليم أولاد الحى من الفقراء الحرف البسيطة كالحدادة والسباكة والنجارة، ونصفها الثانى للطلبة المغتربين، وبذلك يكون الراهب مينا المتوحد أول من فكر فى إنشاء بيوت للطلبة المغتربين، فى تلك الفترة تعرف على مجموعة من الشباب السكندريين المثقفين المهتمين بنشر الثقافة القبطية، وكان لديهم مشروع تأسيس جمعية ثقافية، فأوحى إليهم باسم القديس مينا، وفى نوفمبر ١٩٤٥ تأسست جمعية «مار مينا العجايبى للدراسات القبطية» بالإسكندرية بإرشاد الراهب القمص مينا المتوحد، واستمرت العلاقة بين الراهب المتوحد «وبعد ذلك البابا كيرلس السادس» بمؤسسى الجمعية وأنجالهم حتى نياحته «وفاته» فى عام ١٩٧١.
فى عام ١٩٥١ أرسل الراهب القمص مينا المتوحد «فيما بعد البابا كيرلس السادس» برسالة إلى البابا يوساب الثانى، البطريرك ١١٥، مما جاء فيها: «.. الآن أصبحت سلامة الكنيسة والشعب كله مفقودة، فألتمس منكم أن تعقد مجمعًا مقدسًا وتُعلن الخطأ الذى وقع فيه الآباء المطارنة الذين يطمعون فى الكرسى البطريركى. وبعد ذلك تنتخب لجنة للبحث فى الأديرة عن ثلاثة رهبان مشهود لهم من الجميع، وتنادوا بصوم ثلاثة أيام، وتلقى القرعة الهيكلية، والذى يختاره الله تجعله وكيلًا لقداستكم. وبعد تمتعكم بالعمر الطويل يكون بطريركًا خلفكم. فإذا فعلت هذا يعطيكم الله أجرًا سمائيًا». وتمر الأيام ويشاء الله أن يختار الراهب المتوحد مينا البراموسى ليجلس على الكرسى المرقسى فى ١٠ مايو ١٩٥٩، فكان يومًا ذا رنين خاص، فقد أُذيعت صلوات السيامة فى محطات الإذاعة مباشرة أثناء تأديتها «لم يكن التليفزيون قد أُدخل بعد فى مصر». لقد كانت سيامته حدثًا جليلًا، تهللت له قلوب المصريين، إذ كانت رسامة قانونية بعد العديد من المخالفات التى حدثت منذ تنصيب البابا يؤانس ١٩ فى ديسمبر ١٩٢٨، وحين علم الشعب كله بأن البابا الجديد اسمه «كيرلس» كتب عباس محمود العقاد مقالًا فى جريدة الأهرام، قال فيه: «إن اسم كيرلس ذو رنين خاص فى تاريخ الكنيسة القبطية: فكيرلس الأول عمود الدين، والثانى مشرع حكيم، والثالث مرشد يقظ، والرابع أبوالإصلاح، والخامس زعيم روحى قومى من الطراز الممتاز». الشىء العجيب أنه بعد أن صدرت لائحة ١٩٥٧ المليئة بالمخالفات الكنسية، جاءت انتخابات ١٩٥٩، التى أتت بالراهب مينا البراموسى المتوحد، الذى حمل اسم البابا كيرلس السادس وصار البطريرك ١١٦ تبعًا للتقاليد العريقة التى استقرت فى الكنيسة وليس طبقًا للائحة ١٩٥٧!! لأن «قائمقام البطريرك»- فى ذلك الوقت- الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف، كان ملمًا بقوانين وتقاليد الكنيسة كما كان شجاعًا، فاقتصر الترشح على الرهبان فقط. والتاريخ يعيد نفسه. لقد سجل مجمع أساقفة الكنيسة القبطية فى يوم الخميس ٢٠ فبراير ٢٠١٤- بخط أيديهم وبتوقيعهم وبمحض إرادتهم- بطلان لائحتهم التى لن تُطبق، المليئة بالعديد من المخالفات الكنسية.
بدأ البابا كيرلس السادس عمله البابوى بإعادة إحياء مدينة القديس مينا الأثرية بمريوط، التى يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادى، والتى كانت- حتى القرن التاسع الميلادى- محجًا مسيحيًا عالميًا، فكشف بذلك عن صفحة مجيدة فى تاريخ كنيسة الإسكندرية «وليس الإسكندرية والقاهرة!!» تؤيدها الآثار، فبادر بوضع حجر أساس دير مار مينا بمنطقة مريوط فى ٢٧ نوفمبر ١٩٥٩، وأسند إلى خبير رسم الخط الهيروغليفى والرسم الفرعونى بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية الأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨- ١٩٧٩» مسئولية كتابة اللوحة التذكارية لحجر أساس الدير باللغة العربية، وأيضًا كتابة اسم القديس مينا باللغة القبطية على المنارة الشاهقة التى تعلو كنيسة الدير الحديث، والتى ما زالت قائمة بشموخ تشهد على روعة الإبداع فى الكتابة وحُسن التنسيق.
وعندما أيقن أن كنائس إفريقيا ستلتفت نحو كنيسة الإسكندرية- بعد زوال الاستعمار الأجنبى من أراضيها- بدأ بإنشاء كاتدرائية كبرى تتفق ومركز مصر المرموق فى العصر الحديث، وحضر حفل وضع حجر أساسها الرئيس جمال عبدالناصر، فى يوم السبت ٢٤ يوليو ١٩٦٥، ثم فى يوم الثلاثاء ٢٥ يونيو ١٩٦٨ قام الرئيس جمال عبدالناصر بافتتاحها فى حضور جلالة الإمبراطور هيلاسلاسى الأول، إمبراطور إثيوبيا، وجميع ممثلى العالم فى مشهد رائع يليق بمكانة مصر ومكانة كنيسة الإسكندرية بين بقية كنائس العالم. وللحق تعود العلاقات الوطيدة بين مصر وإثيوبيا إلى البابا كيرلس السادس، مما كان سببًا فى سعادة الرئيس جمال عبدالناصر، ثم فى ١٠ مايو من عام ١٩٦٩ أسند لمجموعة رهبان وتلاميذ الأب متى المسكين بالذهاب لتعمير دير الأنبا مقار بوادى النطرون، بعد أن كان الدير قد صار فى حالة يرثى لها، من حيث عدد الرهبان والوضع المعمارى. وفور نشوب حرب ١٩٦٧ كلف أسقف الخدمات العامة والاجتماعية الأنبا صموئيل «١٩٦٢- ١٩٨١» بالذهاب إلى جنيف والتباحث مع مجلس الكنائس العالمى؛ للحصول على أدوات طبية وأغذية ومساعدات للجرحى والمشردين.
أيضًا اهتم بالعلم والثقافة، فاحتضن الأساتذة الأفاضل مؤسسى معهد الدراسات القبطية بالقاهرة- وهو المعهد الوحيد المتخصص فى الدراسات القبطية فى الشرق- الذى تأسس فى يناير ١٩٥٤ للنهوض بالدراسات القبطية، والذى انبثقت فكرته من جمعية مار مينا العجايبى بالإسكندرية، فكان يجتمع بأساتذة المعهد لتذليل العقبات التى تعوق قيامهم برسالة المعهد، وفى عام ١٩٦٩ عندما علم بقيام جمعية مار مينا العجايبى بالإسكندرية بوضع مرجع فريد لقواعد اللغة القبطية، طلب الاطلاع عليه وأمر بطبعه على نفقته الخاصة، وبذلك أسدى إلى العلم، بإخراج ذلك الكتاب إلى عالم النور، يدًا لا تُنسى أجيالًا وقرونًا عدة. وكان آخر كتاب صدر فى هذا الموضوع عام ١٩٢٤ بتكليف من وزارة المعارف للدكتور جورجى صبحى كتاب «قواعد اللغة القبطية» لطلبة قسم الآثار بالجامعة المصرية.
من بين الذكريات- التى كان قد أخبرنى بها والدى الأستاذ بديع عبدالملك- أنه فى منتصف الأربعينيات توجه إلى المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية راهب طويل القامة ونحيف حاملًا شنطة سوداء، وهو الراهب مينا البراموسى المتوحد، وتوجه لمقابلة مفتش الآثار بالمتحف وهو الأستاذ بانوب حبشى «١٩١٣ – ١٩٥٦» ووالدى، وذلك بغرض مخاطبة مدير مصلحة الآثار المصرية للتصريح للراهب بالإقامة بمنطقة القديس مينا الأثرية بمريوط؛ لأن هناك مطامع من الكنيسة اليونانية بالاستيلاء على تلك المنطقة؛ لحبهم الشديد القديس مينا. وفعلًا قام الأستاذ بانوب حبشى بتقديم طلب للأستاذ «طوجو مينا»، ١٩٠٦- ١٩٤٩، مدير المتحف القبطى بالقاهرة فى ذلك الوقت، لكن حدث أن الأستاذ بانوب حبشى توفى فى عام ١٩٥٦، كما أن إرادة الله الصالحة أنه أقام للكنيسة القبطية الراهب مينا البراموسى المتوحد فى ١٠ مايو ١٩٥٩ بطريركًا على الكرسى المرقسى بالإسكندرية باسم البابا كيرلس السادس، وكأن السماء استجابت لطلب هذا الراهب البار قبل أن تبحث هيئة الآثار فى الطلب!! فأصبحت منطقة القديس مينا بمريوط تحت رئاسة البابا كيرلس، وبعد جلوسه على كرسى الإسكندرية بفترة ٤٠ يومًا، وبالتحديد يوم الجمعة ٢٦ يونيو ١٩٥٩، توجه إلى منطقة القديس مينا بمريوط للصلاة احتفالًا بتذكار تكريس الكنيسة الأثرية التى أقيمت فى القرن الرابع الميلادى، وقد كنت أحد الذين حضروا الصلاة مع البابا كيرلس وأنا أبلغ من العمر ٩ سنوات، وكنت بصحبة والدى، لكن البابا كيرلس السادس- لأنه أب- لم ينس صديقه الأستاذ بانوب حبشى، الذى كان قد توفى عام ١٩٥٦، فطلب إرسال سيارة خاصة من بطريركية الإسكندرية إلى منزل بانوب حبشى لاصطحاب نجلى الأستاذ بانوب، وهما الطفلان مينا وميلاد لحضور الاحتفال بمريوط، وهكذا فى عمق أبوته الحقيقية لم ينس طفلى صديقه واحتضنهما بأبوة شديدة.
كان يحرص بشدة على أموال الكنيسة؛ لأنها أصلًا موجهة للفقراء، فعندما أصيب بجلطة فى قدمه طلب منه الرئيس جمال عبدالناصر فى عام ١٩٦٩ أن يتوجه إلى مصحة خاصة فى روسيا للعلاج، فشكر الرئيس على اهتمامه ورفض السفر. كان يرتدى أبسط الثياب دون زركشة، كما كان يحرص على أن يوجه نظرنا ونحن أطفال صغار إلى الاقتصاد فى استعمال عيدان الكبريت لإضاءة الشموع بداخل الكنيسة توفيرًا لأموال الكنيسة، وأيضًا حُسن استخدام الكتب الكنسية، لتكون متوافرة معنا أطول فترة ممكنة، عاش فى زهد كامل ونقاوة قلب ونسك شديد وسهر فى الصلاة. عاش راهبًا حقيقيًا طوال حياته قبل وبعد البطريركية، فذكراه العطرة تدوم إلى الأبد فى كل محبيه وما أكثرهم.
إن هذا التاريخ الذى نذكره فى فترة البابا كيرلس السادس- فى ذكراه العطرة- هو علم مهم من معالم الحياة المصرية وجزء لا يتجزأ من تاريخها الطويل المُشرف، وبعد انتهاء رحلة حياة البابا كيرلس السادس أُطلق عليه لقب «رجل الصلاة»، كما أن القيادة السياسية عبرت عنه بعبارة صادقة وحقيقية بقولها: «إنه ابن من أغلى أبناء مصر» وإننا جميعًا افتقدنا فيه مناضلًا عظيمًا وأبًا روحانيًا حقيقيًا، كان يعيش بفكره وقلبه مع قضايا الحرية وكان عنوانًا كبيرًا للوطنية. وهكذا كمُلت أيام الرحلة المقدسة التى امتدت من ٢ أغسطس ١٩٠٢ حتى يوم الثلاثاء ٩ مارس ١٩٧١.. إن سجله الرائع نقدمه لأبناء مصر فى ذكراه العطرة، وفاءً لصاحب الذكرى وتكريمًا لصفحة ناصعة من تاريخ مصر.