رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة هادئة لتعثر مباحثات «سد النهضة»


مصر لم تطلب وساطة الولايات المتحدة فى أزمة «سد النهضة»، لكنها بعد انتكاس المباحثات، أكتوبر ٢٠١٩، أعلنت عن أن الوصول إلى طريق مسدود يفرض الرجوع للمادة العاشرة من إعلان المبادئ، الخاصة بالتسوية السلمية للنزاعات، سواء بالتوفيق، أو الوساطة أو إحالة الأمر لعناية الرؤساء.. البيت الأبيض بادر بدعوة وفود مصر وإثيوبيا والسودان لواشنطن ٩ نوفمبر ٢٠١٩.. مصر رحبت وإثيوبيا ناورت.. خلال زيارته لبريتوريا ١٢ يناير، طلب «أبى أحمد» رئيس وزراء إثيوبيا توسط سيريل رامافوزا، رئيس جنوب إفريقيا، لكنه لم يستجب، فاستبدل وفد التفاوض، ليستنفد الوفد الجديد وقتًا فى استيعاب ما انتهى إليه نظيره السابق، ناهيك عن أن الاختيار أتى بعناصر متشددة، تراجعت عن مضمون فقرات ملء السد التى تم التوصل لها.. إثيوبيا اتبعت تكتيك المماطلة وتمييع المواقف، وحاولت إجهاض الوساطة، كسبًا للوقت، وفرضًا للأمر الواقع.
خلال المفاوضات التزمت مصر بمراعاة تمكين إثيوبيا من توليد الطاقة الكهرومائية، وتحقيق التنمية، مع تحديد إجراءات وتدابير مواجهة حالات الجفاف والجفاف الممتد، التى قد تتزامن مع فترة ملء «سد النهضة»، والاتفاق على قواعد تشغيل ملزمة، استنادًا إلى حالة الفيضان وليس عدد سنوات الملء، تجنبًا لحدوث أضرار جسيمة لدول المصب، خاصة فى ظل خلو دراسات الجدوى من أى بحث للأثر البيئى، وأن يتكامل تشغيل «سد النهضة» مع تشغيل «السد العالى»، واستندت مصر فى ذلك إلى القواعد المتعارف عليها فى إدارة أحواض الأنهار المشتركة، والرصد التاريخى لحالة الفيضان فى الظروف المختلفة.. إثيوبيا اتسم موقفها بالتعنت، وتبنت مواقف تكشف عن نيتها فى بسط سيطرتها على النيل الأزرق، وملء وتشغيل السد دون مراعاة المصالح المائية لدول المصب.. موقف السودان يكاد يتطابق مع الموقف الإثيوبى.
إثيوبيا ومصر والسودان اتفقت، فى ٣١ يناير ٢٠٢٠، على أنها ستوقع الاتفاق النهائى بحلول نهاية فبراير، وخلال جولة مفاوضات واشنطن ١٢- ١٣ فبراير وافقت على تولى الولايات المتحدة والبنك الدولى بلورة الصيغة النهائية الملزمة للاتفاق الشامل حول قواعد ملء وتشغيل «سد النهضة».. بمجرد انتهاء عملية الصياغة، أرسلتها وزارة الخزانة الأمريكية للدول الثلاث، مؤكدة موعد التوقيع بالأحرف الأولى خلال اجتماعات ٢٧-٢٨ فبراير.. عندئذ اعتذرت إثيوبيا عن عدم الحضور.. مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى زار أديس أبابا ١٨ فبراير، وأكد أن هناك أزمة تتعلق بالتوقيع: «لا يزال هناك قدر كبير من العمل، لكننى متفائل بأنه يمكننا خلال الأشهر المقبلة حل هذا»، وعندما سُئل عن الدور الأمريكى أكد أن «مهمتنا ليست الضغط على الدول الثلاث، بقدر التوفيق بينها».. رد فعل دبلوماسى متوقع ممن يشغل منصبه.
رغم اتفاق الدول الثلاث، يناير ٢٠٢٠، على مراحل ملء خزان السد، وآليات تشغيله خلال فترات الجفاف، فإنه يتعين استكمال وضع اللمسات النهائية لنقطتين: الأولى، سلامة السد وهو الملف الخطير الذى أبت إثيوبيا إلا أن يظل مسكوتًا عنه، فالسد تم بناؤه على صخور بركانية ضعيفة، قُرب الأخدود الإفريقى العظيم، مساحة بحيرة التخزين ٢٣٧٥ كم٢، معدل الأمان ١.٨ ريختر، مقارنة بـ٨ للسد العالى، ما يُنذر بأنشطة زلزالية، ناهيك عن أخطاء التصميم. خبير الإنشاءات الألمانى بتقرير اللجنة الثلاثية الدولية أكد أن الرسومات الإنشائية معيبة وناقصة، ولا ترقى إلى بناء عمارة سكنية فى «هامبورج»، والخبراء الأمريكان رجّحوا انهياره خلال ١٠ سنوات لتدنى معامل الأمان.. والثانية، أحكام فض المنازعات، التى تتعلق بسد الذرائع أمام احتمالات المراوغة والتملص من الالتزامات التى دأبت عليها إثيوبيا عبر سنوات التفاوض.. لكن أديس أبابا قررت الاكتفاء بما تم.
مهمة هايلى ماريام ديسالين، رئيس الوزراء الإثيوبى السابق، كمبعوث لـ«أحمد» إلى القاهرة ٢٢ فبراير، وإلى الخرطوم ٢٥ فبراير، أعقبت القرار الإثيوبى بالانسحاب، واستهدفت التبرير وتهدئة ردود الفعل، ومحاولة تحييد أدوات الضغط التى يمكن أن تستخدمها مصر.. اختيار ديسالين تلك المهمة ربما يرجع للكفاءة والخبرة فى ملف السد، لكنه اختيار غير موفق، نظرًا لما شهدته المفاوضات إبان توليه رئاسة الحكومة من تشدد ومماطلات، ما يعطى مزيدًا من الدلالات السلبية. وفدا مصر والسودان وصلا واشنطن فى الموعد المقرر للجلسة الأخيرة ٢٧ فبراير، مصر وقعت بالأحرف الأولى على مشروع الاتفاق النهائى، لكن السودان امتنع.. وزارة الخزانة الأمريكية وصفت الاتفاق بأنه تأسس على مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، والتزم بمبدأ التعاون فى الملء الأول وإدارة السد، وعدم إحداث ضرر جسيم بدول المصب، الواردة فى المادة الخامسة من إعلان المبادئ ٢٣ مارس ٢٠١٥، كما يعالج جميع القضايا المعلقة.. «الخزانة» أشادت بتوقيع مصر، وشددت على عدم بدء إثيوبيا ملء خزان السد قبل التوقيع، وهو تحذير استند إلى ما تضمنته الصيغة النهائية للاتفاق من عدم البدء فى التخزين إلا بعد توقيع الدول الثلاث.. حزم وزير الخزانة الأمريكى عوَّض مواءمات وزير الخارجية.
الخارجية الإثيوبية ردت بأنها تشعر بخيبة أمل من الموقف الأمريكى، وتحدت، بتأكيد عزمها البدء فى التخزين يوليو المقبل!.. رفضت أمريكا ذلك، لأنه يؤدى إلى أضرار جسيمة بدول المصب، فضلًا عن مخالفته القانون والأعراف الدولية.. والحقيقة أنه رغم رد فعل إثيوبيا المتشنج، فإنها لا تستطيع التمادى فى تجاهل رؤية واشنطن، فلديها بالمهجر ٣ ملايين نسمة، منهم مليون بالولايات المتحدة، وواشنطن تعتبر السند الرئيسى للنظام فى مواجهة الاضطرابات الداخلية، والبنك الدولى هو المقرض الرئيسى لمشاريعها، وآخرها قرض ٢.٩ مليار دولار ديسمبر ٢٠١٩، لتمويل سد جيبى الثالث على نهر أومو.. التحدى الإثيوبى عنتريات تفتقر أى تقدير موضوعى.
الغياب الإثيوبى عن اجتماعات ٢٧- ٢٨ فبراير بواشنطن تم تبريره بحجة عدم انتهاء الحكومة من المناقشات المحلية مع الجهات المعنية بالسد.. الإعلام الإثيوبى أشار إلى تأثير التوقيع على الأوضاع الداخلية والانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، وحملة الرئيس «أبى أحمد» الانتخابية، فضلًا عن عدم ضمان إجازة البرلمان المنتخب الاتفاق.. كل ذلك يؤكد أن الانسحاب قرار سياسى، خاصة أن سيليشى بيكيلى، وزير المياه، أكد عقب جلسة منتصف فبراير بواشنطن أنه «تم تحقيق تقدم، لكن هناك حاجة لمزيد من العمل، للتوصل إلى اتفاق بنهاية فبراير، وأن وزارتى المياه والخارجية الإثيوبيتين ستجريان مشاورات وطنية خلال أسبوع للتوافق على النتائج، وطريقة المضى قدمًا»، وذلك إقرار بعدم وجود عقبات فنية تحول دون الاتفاق.. السفير الإثيوبى بواشنطن فيتسوم أريجا أشار الى أن بلاده «لن توقع على أى اتفاق يقضى بتنازلها عن حقوقها فى النيل الأزرق».. ما يعنى أن محور الأزمة يتمثل فى تمسك إثيوبيا بأن يكون «قرار الملء والإيقاف والاستئناف محليًّا صرفًا»، خلافًا لقواعد القانون الدولى المنظمة لأوضاع الأنهار الدولية، والسدود التى تنشأ على مجاريها.. التفاوض كان هدفًا تكتيكيًا لكسب الوقت وفرض الأمر الواقع، لكن المهارة الدبلوماسية وحصار الوسطاء للمفاوض الإثيوبى حرماه من المماطلة، ما دفعه إلى الانسحاب كتكتيك بديل.
التعرف على الأزمة الداخلية يكشف عن الدوافع الحقيقية للموقف الإثيوبى.. «أحمد» يخوض أول انتخابات برلمانية فى عهده مايو المقبل ٢٠٢٠، يحاول خلالها تأسيس «حكم مركزى»، يمكن قومية الأورومو التى ينتمى لها من مفاصل الدولة، كبديل لقومية التيجراى، التى انتهت سيطرتها بوفاة ميليس زيناوى ٢٠١٢.. يواجهه «الحزب الديمقراطى الموحد»، وهو ائتلاف حزبى معارض تم تدشينه مايو ٢٠١٩، ومنافس شرس هو «الناشط الإعلامى جوهر محمد»، الذى يتمتع بشعبية طاغية.. يواجه اضطرابات وأحداث عنف، وقع آخرها بإقليمى أوروميا وهرر ومدينة دريداو أكتوبر ٢٠١٨، أسفرت عن مقتل ٨٦ شخصًا.. ففى الوقت الذى كان يتم فيه تكريم «أحمد» بجائزة نوبل للسلام، كان المحتجون يحرقون كتابه «محاولة بناء الاندماج الوطنى» الذى يروج لمشروعه السياسى.
«أبى أحمد» يبحث عن تحدٍ خارجى يوحد خلفه أمة متشرذمة عرقيًا، لكنه أنهى الحروب، وصنع السلام مع إريتريا، جارته اللدود، وليس هناك بديل أفضل من مواجهة مصر، بكل ما تحمله من رمزية فى التاريخ الوطنى الإثيوبى، وأن تدور المواجهة حول «سد النهضة»، محور التعبئة الوطنية عبر السنوات الماضية.. التحدى مرحلى، لعبور الانتخابات، لكن الرهان على طبيعة رد الفعل المصرى، فإذا خرج ناعمًا يمكن استيعابه، تفرض إثيوبيا رؤيتها كأمر واقع مستديم، أما إذا لم تقدر على احتماله، فلا غضاضة من اللجوء لسيناريو التراجع.. «أحمد» يناور لدعم تطلعاته نحو البقاء فى السلطة، دون تقدير أن ذلك يطرح ردود فعل تتناسب وما سيؤدى إليه من عطش دولة المصب، وتصحر أرضها الزراعية. طبيعة المواجهة وحساسية القضية تفرض التحرك السريع، وعلى محاور متعددة، استنادًا إلى ما تحقق من افتضاح لتعنت الموقف الإثيوبى، وتراجعها عن الالتزام بوثيقة شاركت فى صنعها، فى وجود وسطاء دوليين، ولم توقعها للتملص من التزاماتها القانونية.. تحركنا يستهدف إكساب هذه الوثيقة قوة الإلزام السياسى، من خلال تحرك دبلوماسى دولى واسع يعطى أولوية للدول الإفريقية التى قد تتعاطف مع إثيوبيا حال احتدام المواجهة. دول حوض النيل تضطلع هنا بأولوية خاصة، وتستحق مبعوثين على مستوى سياسى رفيع.. التواصل مع جنوب إفريقيا بحكم ترؤسها منظمة الوحدة الإفريقية بالغ الأهمية، تنشيطًا لدور الاتحاد الإفريقى فى الضغط.. والدول الإفريقية الكبرى لا تقل أهمية.. تصعيد الأزمة إلى مجلس الأمن حان دوره، والتحرك مع الدول الكبرى خلاله يستهدف المطالبة بوقف التجاوزات الإثيوبية فى قضية المياه، لتجنب تهديدها السلم والأمن الإفريقى والدولى، مع الحفاظ على زخم الدور الأمريكى فى الوساطة، دون أن يتعارض ذلك مع اللجوء لأطراف أخرى، وعلى رأسها «الصين والسعودية والإمارات».
مصر تتمسك بنهج سياسى قائم على الحلول السلمية وبناء الثقة، لا الصدام المسلح وتأجيج النزاعات، لكن ذلك لا يعنى أى تنازل أو تفريط فى حق الدولة المصرية، وأمنها المائى.. تمسّك الرئيس السيسى فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الأخيرة بأنه «لن يتم تشغيل سد النهضة بفرض الأمر الواقع، لأن مياه النيل بالنسبة للمصريين مسألة حياة»، هى رسالة بالغة الدلالة.. واجتماعات سيادته مع رئيس الحكومة ووزراء الدفاع والخارجية والرى ورئيس المخابرات، فى أعقاب تعثر مفاوضات ٢٢ يناير الماضى، ثم لقاؤه قيادات الجيش ٣ مارس، أقرب إلى «مجالس الحرب».. والهجوم الذى شنته إثيوبيا على وساطة أمريكا والبنك الدولى، وتبجحها بشأن تخزين المياه اعتبارًا من يوليو، يشكك حتى المتعاطفون، فى سلامة موقفها.. على إثيوبيا أن تدرك قبل فوات الأوان، أن الأمر جد خطير، وأنه لم يعد يحتمل كل هذا القدر من سوء التقدير.