رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القيم الجامعية والقاعدة العلمية


لا بد من مراجعات دورية علمية على كل ما يحدث فى جامعاتنا موطن العلم وديار العلماء، حيث هناك حالة من الاستسهال والانفلات من تطبيقات العمل العلمى الوطنى الجاد، بعد أن اكتفينا بأن تكون لدينا مجموعة من العلماء تعمل فى جزر منعزلة، وظلت جامعاتنا دون منظومة لإدارة التطوير، وغياب وجود قاعدة علمية قابلة لأن تتسع حلقات إنتاجها؛ لتشمل جميع مناحى العلم والمعرفة، وبات توصيف حال الواقع العلمى لمؤسساتنا العلمية والبحثية يشير إلى الاكتفاء بدور المستهلك لعلوم الغرب ومنجزاته الفكرية، ولا ينشغل قادتها بالتفكير فى إنتاج علمى وبحثى وطنى.
يُقال دائمًا إن الجامعة هى الحصن والملاذ للعقل الإنسانى وهى بيت العلوم وموقع التجريب والبحث والنشر العلمى، ومن قبل ومن بعد الحضن والحضّانة الأهم لترسيخ القيم والصعود الإنسانى بالأخلاق الرفيعة.
فى الجامعة لا بد من حماية المبادئ الرئيسية والقيم العامة لروادها والمجتمع حتى يكون لوجودهم على الأرض الدور الأبرز فى الاندماج مع عناصر المنظومة العلمية العالمية لتحقيق أمل تقدم الأمة والتنافس مع ركاب حافلة التميز الفكرى والإنسانى.
الآن ــ على سبيل المثال ــ السؤال الذى بات مطروحًا بقوة: لماذا تتزايد ظاهرة السرقات العلمية بهذا الشكل الذى يهدر كل محاولات السعى إلى تحقيق ما نتحدث عنه حول ضرورة الالتزام بالقيم والأعراف الجامعية، وبما تشكله تلك السرقات من رسم ملامح الشك والريبة حول مدى أعداد المدرسين والأساتذة فى المعامل ومواقع الدرس والتعليم من الحاملين شهادات الماجستير والدكتوراه المشكوك فى نسبها العلمى الخالص لهم، وانعكاسات ذلك على مدى نجاح العملية التعليمية، وتشكيل أنساق قيمية رفيعة وسامية داخل الحرم التعليمى.
قد يقول البعض إنه قبل الحديث عن مشاكل البحث العلمى وأبرزها ظاهرة السرقات العلمية، علينا التوجه بقوة نحو تهيئة المناخ الملائم للبحث والتجريب وفرص اكتساب الخبرات.. لا بد من وجود مكتبات جامعية يتم تحديث محتوياتها وتيسير وسائل البحث والتعامل مع القائمين على تشغيلها، وتزويدها بأحدث التقنيات فى مجال تشغيل المكتبات.. أيضًا على الجامعات تيسير عملية ابتعاث أعضاء هيئة التدريس وزياراتهم مراكز البحوث العالمية ومشاركتهم فى المؤتمرات المهمة «بعيدًا عن مؤتمرات الاسترزاق والبيزنس والتهريج العلمى».
ولا بد من تطوير المعامل والورش فى الكليات العملية ودعمها بأحدث أدوات التجريب والكوادر المدربة على إداراتها، بالإضافة لدعم الجوانب المادية لدى الباحث حتى لا ينشغل بمعوقات تهدر الوقت والجهد، وتؤثر بشكل سلبى على تواصل عمل الباحث بجدية والتزام بخطة البحث، وبالتالى تراجع النتائج المرجوة التى يمكن أن تمثل نهاية صادمة لباحث شاب قد يكون ممتلكًا أدواته البحثية بداية من فكرة واختيار موضوع البحث من الأهمية وحداثة التناول وزاوية الرؤية، ما كان يمكن أن يؤهله لتحقيق خطوات أكثر تسارعًا نحو نتائج أكثر إبهارًا.
وهنا أنا لا ألتمس الأعذار أو أبحث عن الأسباب لسارق البحث العلمى، ففى كل الأحوال لا يمكن أن نغفر هذا السلوك المشين الذى يهدم مشروع البحث العلمى المصرى بل والعمل الأكاديمى من الأساس.. إنما أردت أن تجد الأجيال المقبلة من الباحثين المناخ الطيب المحفز على بذل أقصى الجهود بعيدًا عن تثبيط الهمم الذى قد يدفع الكسالى لاختصار خطوات البحث والاستسهال فى الاقتباس دون الإشارة للمراجع أو لصاحب الجهد العلمى الأصلى، وصولًا لسرقات فصول وأبواب كاملة، وفى النهاية ـ وفى أحيان كثيرة ـ انتقال صورة واسم الباحث من صفحات التعليم والبحوث إلى صفحات الحوادث يعرضه لمحاكمات تأديبية.
إن من يدعون أن ظاهرة السرقات العلمية لم تصل إلى حد توصيف أنها تشكل ظاهرة لا يدرون أن المشكلة لا تكمن فى مدى زيادة أعداد من يمارسونها فقط، لأنها جريمة لها تبعات غاية فى الخطورة بداية من انهيار القيم وسقوط القدوة، وصولًا إلى وجود أساتذة تمت ترقيتهم إلى مناصب ومراكز عليا دون تأهيل حقيقى، وما يترتب على ذلك من ضعف علمى فى صفوف أعضاء هيئة التدريس يؤثر على مستوى كفاءة طلبة وطالبات يقوم بتعليمهم نماذج من هؤلاء الخارجين على القيم والمبادئ الجامعية، ومع ذلك نطالع فى الجرائد والمجلات السيارة، ما يؤكد تكرار حوادث السرقات العلمية.
فى مؤتمر مهم نظمته كلية الآداب بجامعة القاهرة عام ٢٠٠٠ تحت عنوان «ميثاق شرف للأعراف والقيم الجامعية» قدم القائمون على تنظيمه مقترحات مهمة أذكر منها:
- الالتزام بالأمانة العلمية فى البحث والتأليف والنشر باعتباره تجسيدًا حيًا للقيم وأخلاقيات البحث العلمى بما لا يتعارض مع المقدسات والثوابت.
- البعد عن التكرار والاجترار، وتنمية روح الابتكار والإبداع.
- تحرى الحقيقة العلمية والدفاع عنها من أهم واجبات عضو هيئة التدريس، وبالتالى يلتزم عضو هيئة التدريس بالبعد عن الغش والتدليس والكذب، وكل ما يحول دون الوصول إلى هذه الحقيقة.
- عضو هيئة التدريس مؤتمن على البيانات الخاصة بالبحث، وهو مسئول عن الحفاظ على خصوصيتها وتأمينها ضد الانتهاك.
- مواصلة البحث العلمى على امتداد الحياة الأكاديمية لعضو هيئة التدريس، بحيث لا يرتبط إجراء البحوث بالتقدم للترقية.
فهل من تفعيل لمثل هذه التوصيات التى صدرت منذ ٢٠ سنة ياهوووه؟!