رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مئوية مفكر عظيم.. نص حوار لم يُنشر من قبل مع خالد محمد خالد

خالد محمد خالد
خالد محمد خالد

فاجأنى المفكر الإسلامى الكبير خالد محمد خالد، أثناء إحدى زياراتى له، بأن قدمنى لأؤمه فى صلاة العشاء، معتذرًا بأنه لا يستطيع الوقوف، ووجدتنى وأنا شاب فى مطلع الثلاثينيات من عمرى إمامًا لهذا العالم والمعلم العظيم، الذى وسطته يومًا لأقابل د. مصطفى محمود لإجراء حوار صحفى معه فأعطانى الرقم الخاص به فى خلوته بمسجده الشهير، فرد علىّ بنفسه وأعطانى موعدًا، وعندما مرت السنوات سألنى خالد محمد خالد: ألم يعطوك منصبًا فى جريدتك؟، فقلت له: لقد أعطوا منصب سكرتير التحرير الذى أستحقه لمن لا يستحق، لأن له واسطة كبيرة بالحزب الوطنى، فقال لى مواسيًا: «دعهم يأخذونه فإن العصافير تغنى أخيرًا»، وبعد أن تعافى من مرضه الأخير زرته بمسكنه الجديد بالمقطم، الذى جمع فيه أولاده وأحفاده، بعد أن ترك مسكنه بمنطقة المنيل، وجرى بينى وبينه حوار طويل فى فبراير ١٩٩٦ قبل رحيله، أقتطع منه - لظروف المساحة - شهادته على حياته الفكرية ورسالته فيها، فضلًا عن علاقته بزعماء مصر الثلاثة، الذين عاصرهم «عبدالناصر، السادات، مبارك»، وكأن خالد محمد خالد - الذى تحل مئويته هذا العام «١٥ يونيو ١٩٢٠ ٢٩ فبراير ١٩٩٦» - يقدم كشف حساب لحياته، التى كادت أن تطوى صفحاتها وأنا أجرى معه هذا الحوار، الذى استدعى خلاله أحفاده ليلتفوا حوله، وكأنه يرى فيهم المستقبل المشرق الذى يتمناه لبلاده.

■ ما الذى كان يشغلك أثناء مرضك.. أمد الله فى عمرك؟
- فى خلوة المرض واعتكافاته وتأملاته أحسست أو بدا لى أن هناك أفكارًا كثيرة تنتظرنى لكى أقول فيها كلمتى وأبلغ فيها رسالتى، منها ما هو عن الإسلام العظيم، ومنها ما هو عن الديمقراطية الجليلة.. وبصفة عامة اكتشفت أن هناك أفكارًا تدخل فى صميم دورى، الذى اعتقدت منذ بدأت أكتب أنه اختيار القدر لى فى حياتى هذه إن شاء الله، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمدنى بفضله وبعافيته، وأن يوفقنى لإتمام ما أريد من الدور، الذى أعتقد أنى جئت الحياة لأدائه.
فى رأيى أن المفكر أو الكاتب الذى يفكر بصدق وإخلاص، ويدير دائما خواطره على شئون أمته ودينه وبلاده، لا تؤذن أفكاره بانتهاء لأن الحياة تتجدد وتتجدد معها حاجات كثيرة جدًا للأمة وللشعب وللدين، ويرى الكاتب لزامًا عليه أن يؤدى ما يستطيع أداءه نحو هذه القضايا.
■ ما هى إذن رسالتك فى الحياة؟
- فى غير نفاق أو حتى مجاملة.. فالإسلام ديننا ودين آبائنا كما سيكون إن شاء الله ديننا ودين أبنائنا والأجيال الوافدة بعدنا، وكان ولا يزال أملى أن أقدم للناس فهمى للإسلام، الذى أظنه يختلف عن أفهام كثيرين من الذين شاء قدرهم أن يكونوا من دعاته ومبلغيه، وأحسبنى ولله الحمد قد وفقت فى هذا فى السنوات الخوالى إلى حد كبير فى تحقيق هذه الغاية.. وهذه هى القضية الأولى، أما القضية الثانية فإنها قضية الديمقراطية، وهى تشغلنى وتأخذ بكل فكرى، لأننى من خلال السبعين عامًا التى عشتها، ومن خلال تجربتى كمواطن فى وطن تقلب فيه الحكم بكل ألوانه وأشكاله وتناقضاته.. انتهيت إلى يقين بأن الديمقراطية هى وحدها القادرة، إذا أحسن تطبيقها وصدقت النوايا فى تطبيقها، عندئذ على أن تحمى إنسانية الإنسان وترتفع بها إلى الأفق الذى أراده الله لخلقه الإنسانيين.
ليست مشكلة الحياة بالنسبة للبشر.. ماذا يأكلون أو ماذا يلبسون أو ماذا يقتنون فحسب، بل مع ذلك مشكلتهم فى: هل هم بشرية نابهة يحيون فى وطن وفى مجتمع، أم هم قطيع مغلوب على أمره يحيا فى حظائر القطعان؟ جربت هذا ورأيت تجربته فى وطنى، وقرأت نفس التجربة فى كل الأرض فى كل الدنيا، فرأينا الديكتاتوريات التى قامت هناك فى الغرب مثل النازية والفاشية والشيوعية أو البلشفية، ورأينا كيف سحقت روح شعبها، وإن كانت فيالق قوية التسليح مقتحمة غير هيابة فى الحروب ولا وجلة.
فالإسلام والديمقراطية.. لهما أعيش ويسعدنى أن ألقى الله سبحانه وتعالى وأنا مؤمن باﻹسلام، مدافع جسور عن الديمقراطية.. وقد تسأل كما يسأل كثيرون: أو ليس الإسلام ديمقراطية؟ وأجيب: لم تشهد الأرض أديانًا ولا نظريات ولا فلسفات تفوق الإسلام مجتمعة فيما اختص به من مزايا ومن مناقب وعظمة أفاءت على الإنسان منذ أن نزل إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وأزمة الإسلام ليست تعاليمه ولا فى حقائقه إنما أزمته- لا سيما فى هذه الأيام- فى أهله.
ففى الإسلام دعوة إلى الشورى، كما أن فيه دعوة آمرة إلى الصلاة والصوم والزكاة والحج، فهل يصلى المسلمون الصلاة التى يريدها الإسلام؟، هل يقيمون وجوههم لله على نمط رسولهم الأكرم، صلى الله عليه وسلم، الذى قال «صلوا كما رأيتمونى أصلى»؟ ناهيك: هل كل مسلم بشهادة الميلاد يؤدى الصلاة؟.. إن كثيرين من المسلمين إما أنهم لا يؤدون الصلاة وإما أنهم يصلون وكأنهم ما صلوا.
■ لكن ما رأيك.. رغم وجود فهم صحيح للإسلام عبرت عنه فى مؤلفاتكم، فإن تطرفات هنا وهناك تدل على أن مثل هذا الفهم لم يصل بعد كاملًا إلى من يجب أن يصل إليهم؟
- رحم الله من قال إن الحق لا يعرف بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق، أى أن الناس بسلوكهم لا يكونون دليلًا على الحق وتوثيقًا له، إنما الحق هو الذى يوثقهم إن كانوا أهله، والكاتب والمفكر ما عليه إلا أن يقول الحق «والله يقول الحق وهو يهدى السبيل»، والحق لا يمكن أن يخلو الميدان فى كل عصر من آثاره، ولكن حكم الخالق جل جلاله أراد كما قال عن الناس وعن البشر «ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك»، فالذى يكتبه الكتاب والمفكرون يجد فهمًا ويجد قطعًا من يتقبلونه ويستضيئون به وتسعى خطاهم فى طريقه، كما يكون هناك العكس: الذين لا يريدون الحق أو لا يقدرون عليه فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا.
ومن جهتى أنا حيث توجه السؤال لى.. أقول لك إن الذين انتفعوا بكتاباتى وبموقفى الصلب الجسور مع الدور الذى اختارته المقادير لحياتى كثيرون.. ولا تنظر إلى الجيل الذى تعاصره ويعاصرك، فإنك لا تعرف ماذا تفعل الأفكار فى الأجيال المقبلة، وأضرب لك مثلًا بالعلامة «ثورد»، فقد كتب كتابًا موجزًا فى صفحات محدودة ومعدودة عن العصيان المدنى كأسلوب تعلن به الشعوب احتجاجها على خطأ الحكام أو انحرافهم ومرت سنوات طويلة ومديدة لا يقرأ هذه الصفحات أحد، ولا يسمع بها أحد حتى جاء غاندى العظيم محرر الهند الأكبر، فوقعت فى يده هذه الكلمات التائهة المختفية وجعلها نهجه وثورة سياسته، فعلم الهنود ألا يقابلوا العنف بالعنف، وأن يتخذوا العصيان المدنى، لا الحروب الأهلية ولا الانقلابات المسلحة، سبيلهم لإقناع حاكم أو لحمل حاكم- أى حاكم- على الاقتناع بمطالب شعبه وأمته، فالأفكار إذا لم تثمر اليوم تثمر غدًا، وقديمًا قال نابليون: «الأفكار أقوى من الجيوش».
■ وهل حدث أن كتبت للحاكم منبهًا لما يحدث من أخطاء وتجاوزات؟
- حدث ذلك كما يحدث من أى كاتب نذر حياته للحقيقة والحق، كل ما فى الأمر أننى لم أكن عنتريًا فى كتاباتى، ولا معلنًا مزهوًا بشجاعتى أقول للناس انظرونى، إنما كنت أقول كلمتى بأدب وصدق وشجاعة، وأظن أن الله سبحانه قد علم من أمرى ذلك فبسط يده على وحفظنى من محاولات كثيرة خلال سنوات الثورة بذلت لإيذائى، فكان سبحانه وتعالى الحافظ القوى والموفق والمستعان.
■ هل تقصد أيام عبدالناصر الذى كان يتقبل منك النقد استشعارًا منه بصدق توجهاتك؟
- كدت أضرب لك مثلا بموقفى من الرئيس جمال عبدالناصر- رحمه الله- فقد كان كما قال أكثر من مرة إنه من قرائى المثابرين على قراءة كل ما أكتب، وأنا لا أذكره الآن حتى حين أنقده وأعارضه إلا وأنعته بأنه «الرجل الذى سخره الله لحمايتى»، فهناك وقائع كثيرة كان يراد بى خلالها الأذى، لا سيما بعد حوار اللجنة التحضيرية، فكان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يرفض أن يقربنى أحد بسوء، وهو فعلا كما ذكرت فى سؤالك كان يستشف بذكائه الصدق من الكذب والإخلاص من النفاق، ولقد قال لى فى حوار اللجنة التحضيرية: «أنا قرأت كل كتبك وأنت الوحيد الذى لم يقترب أحد من حريتك»، ففهمت أن الرجل لولا ابتعاده عن الديمقراطية لعاش فى ضمير الأمة العربية كلها مائتى سنة على الأقل، كما يعيش «واشنطن»- محرر أمريكا- حتى اليوم.
■ هل صحيح أنك كتبت «رجال حول الرسول» تحذيرًا لعبدالناصر من حاشية السوء؟
- الذى أوحى إلى بهذا العنوان «رجال حول الرسول» واقعة لا أذكر تفاصيلها، كانت قد وقعت أيام الرئيس عبدالناصر وكان لبعض المحيطين به آراء حسبتها أنا- والله أعلم- مبعثها النفاق وسألت نفسى: أليس الرئيس عبدالناصر كان سيكون شيئا آخر أكبر من هذا الذى هو فيه الآن، لو أن حوله رجالًا يؤمنون بالحق ويحترمونه؟.. فى هذا الوقت كان فى نيتى أن أكتب عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء هذا العنوان كنتيجة للمقارنة بين الرجال الذين يشدون أزر الإيمان والصدق والجرأة، وبين الرجال الذين يضلون عن الحق فيضل معهم الحاكم والقائد والزعيم.
■ هل كنت تهدى كتبك إلى الرئيس عبدالناصر؟
- كل كتبى كنت أرسلها لعبدالناصر عن طريق البريد المسجل، ولا أدرى لماذا كنت أستنكف أن أحمل الكتاب وأذهب بنفسى إلى مكتب التشريفات أو سكرتارية الرئيس، إنما كنت أكتفى بإرساله مسجلًا، وأظن أن ذلك ربما كان يغضبه بعض الشىء، لكن كانت هذه طبيعتى وطريقتى.
■ كيف استشعرت غضب الرئيس من طريقتك فى إهداء كتبك إليه؟
- حدثت مرة واقعة أعطتنى هذا التصور، فالكتاب الوحيد الذى قررت أن أحمله إليه وأذهب بنفسى لأهديه إياه عن طريق السكرتارية، كان كتاب «أزمة الحرية فى عالمنا»، وفى هذا الكتاب وفقنى الله توفيقًا بليغًا لأن أكشف المخبوء من سلوك الدول الكبرى التى يزيف بعضها الديمقراطية، وسلوك الدول الأخرى التى تعلن الديكتاتورية، وفى هذا الكتاب ناقشت «الميثاق»، الذى كان قد تقدم به الرئيس عبدالناصر واتجهت إلى اقتراحات معينة محددة لكى نضع أقدامنا على طريق الديمقراطية الصحيحة. وبهذه المناسبة لا آسف على شىء مما ناديت به فى هذا الكتاب إلا أسفى على أننى- كما قال المرحوم الأستاذ الكبير مصطفى مرعى المحامى- الوحيد الذى نادى بهذا الاقتراح، وهو الإعلان أو النص فى الدستور على أن الصحافة هى السلطة الرابعة، أى أن المجتمع يتكون من السلطة القضائية والسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وسلطة الصحافة.. كان غرضى طبعًا إكبار الصحافة وإجلالها، وقد أخذوا هذا فى عهد الرئيس السادات.. لا أدرى إن كان قرأها أم أن أحدًا قد قرأها وقال له أو أراد أن يزهو بها كنتاج لفكره، فجاء الرئيس السادات وأخذ هذا الاقتراح، كما رسمته فى الكتاب تمامًا، لكنه حول الصحافة إلى حرفة وحول المحررين الكبار والصغار وكل من يعمل فى الصحافة إلى موظف فى الحكومة، يرقى ويفصل ويحال إلى المعاش... إلخ.
نعود إلى ما سألت عنه، ذهبت بالكتاب واستقبلتنى سكرتارية الرئيس عبدالناصر، وحيونى تحية طيبة، وكتبت كلمة فى دفتر التشريفات، قلت: إننى يسرنى أن أهدى هذا الكتاب إلى الرئيس عبدالناصر.. وخرجت، وإذا فى اليوم التالى يقطع الأرض وثبًا رجل يلبس زيًا عسكريًا يتألق ويمتطى «موتوسيكل» كبيرًا، وأعطانى خطاب شكر من الرئيس عبدالناصر، أما كل الكتب التى أرسلتها قبل ذلك أو بعد ذلك فلم يكن بشأنها «موتوسيكل» ولا خطاب شكر، فلما حدث هذا علمت أن الرئيس عبدالناصر أخذ على خاطره ومهما كان إعجابه بأفكارى وكتاباتى إلا أنه ربما اعتبر الطريقة التى أرسل بها كتبى إليه فيها نوع من الكبر والاستكبار، ولكنه أسلوبى فى بعض التصرفات الخاصة.
■ كنت تكتب وتنشر فى عهد الرئيس عبدالناصر.. فلماذا توقفت فى عهد الرئيس السادات؟
- حين أعلن الرئيس السادات أنه سيسير على الديمقراطية كنت أسأل نفسى: هذا الرجل الذى جلس مع عبدالناصر ثمانية عشر عاما وعبدالناصر بعيد عن الديمقراطية، كيف يتأتى له بين عشية وضحاها أن يقدم للشعب ديمقراطية حقيقية صادقة؟، وأذكر أنه ذات يوم فى مكالمة تليفونية بينى وبين الأخ موسى صبرى، قال لى إن الرئيس السادات أمرنى بأن أرجوك فى أن تكتب باستمرار فى جريدة «الأخبار»، وأضاف: الرئيس السادات قال لى إن خالد وطنى ومخلص وشريف وخسارة ألا يكتب.. فاعتذرت وقلت له أبلغ الرئيس شكرى على ثقته بى، ولكن أعتذر عن عدم الكتابة، لأنى لا أجد ما أقوله.
وكتبت ثلاث كلمات فى عهده، الأولى فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، وكان عنوانها «لا يصح إلا الصحيح»، وكانت تمجيدًا لاقتحامنا عرين إسرائيل، وكتبت مقالين آخرين فى «الشعب»- جريدة حزب العمل- بعد اعتقال ١٥٠٠ معارض فى ليلة أو ليلتين، وقلت فى المقال الأخير منهما بعد أن فرقت بين حكم الفرد وحكم الأمة: «لأن تكون فردًا فى جماعة الأسود خيرًا من أن تكون قائدًا لقطيع».
■ وكيف استقبلت عصر مبارك؟
- لما جاء الرئيس مبارك أهديته كتاب «رجال حول الرسول»، ولما انعقد مؤتمر الحوار كتبت «لو شهدت حوارهم لقلت...»، وأهديته إليه ليقرأه قبل أن يبلغه بعض المقربين به بطريقة ملتوية.
■ كتبت كثيرًا بجريدة «الوفد» منتقدًا ومعارضًا.. ومع ذلك لم تمس.. فما دلالة ذلك بالنسبة لك؟
- واضح من خصائص الرئيس مبارك أن عنده قدرة على الحلم والصبر وسعة الصدر، ثم أظن أن معه أيضًا من الفهم والوعى ما يدرك بهما أن الله رفعه مكانًا عليًا فلا ينبغى أن يقابل نعمة الله عليه بإيذاء عباده.