رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابن تيمية.. قصة الأب الروحى لـ«شياطين الإرهاب»

جريدة الدستور


كان الشيخ سيد سابق هو أحد الإخوان المتهمين فى القضية الشهيرة المعروفة بـ«السيارة الجيب»، وكانت أجهزة الأمن قد ضبطت بعض الإخوان وهم يحملون فى سيارة جيب الكثير من الأسلحة، ولم تكن الأسلحة هى الأمر المهم فى القضية، فقد سبق قبل ذلك أن تم العثور على أوكار للأسلحة عند بعض الإخوان، ولكن المهم فى هذه القضية هو أنهم وجدوا فى المضبوطات خطة كاملة أعدها الإخوان لحرق القاهرة، وأمام محكمة الجنايات قام رئيس المحكمة بتوجيه سؤال للشيخ سيد سابق: هل أنت مفتى الدماء؟ فرد الشيخ بثقة: نعم أنا أفتى فى دم الحيض للنساء، أما مفتى استحلال الدماء فهو ابن تيمية.
لم يكن سيد قطب إمام التكفير قد دخل الإخوان بعد، ولم تكن صورة التنظيم السرى المسلح للإخوان قد ظهرت على حقيقتها بشكل كامل بعد، وقد كانت كل أنشطة الشيخ الأزهرى سيد سابق فى «الإخوان» هى أنشطة خاصة بقسم الدعوة، لذلك سرعان ما ترك سيد سابق «الإخوان» فيما بعد وأصبحت مقولته عن ابن تيمية من أشهر المقولات.
وإذا بدأنا الحديث عن ابن تيمية فيجب أن نُعَرِّف عنه، فنقول إنه «تقى الدين أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحرانى»، ولقب «ابن تيمية» هذا كان لأبيه الحنبلى المذهب ثم أصبح له، وقد ولد ابن تيمية فى مدينة «حران»، وهى مدينة تقع فى تركيا فى الجنوب الشرقى، وهى على حدودها مع سوريا، ولهذه المدينة تاريخ طويل ليس هنا مجال ذكره، ولكن نقول عنها فقط إنه كان يسكنها بعض العرب والأكراد، وما لبث والد ابن تيمية أن هاجر منها إلى دمشق بعد مولد ابنه الذى سيحدث تغييرًا كبيرًا فى العالم لا يزال ممتدًا حتى الآن، وإذا كنت متابعًا للحركات الإجرامية التى ارتدت ثوب الإسلام فى العصر الحديث، ستعرف أن إمامهم وسيدهم هو ابن تيمية، وستعرف أنه يمثل مرجعية كبرى بالنسبة لعموم المتطرفين، وقد تتلمذ على كتبه وأفكاره سيد قطب وأسامة بن لادن وأيمن الظواهرى وأبومصعب الزرقاوى وقتلة السادات وشيوخ الجماعات السلفية مثل محمد حسان وأبوإسحاق الحوينى ومحمد حسين يعقوب، وقادة وأعضاء تنظيمات الجهاد والقاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس، وكل التنظيمات المستولدة منهم، وإذا حدث وانتسبت لإحدى الكليات الدينية فى إحدى الجامعات الدينية، ستجدهم يتحدثون عن ابن تيمية باعتباره فقيهًا ومحدثًا حنبليًا كبيرًا.
وإذا تتبعت سيرة ابن تيمية ستعرف أنه بدأ فى تلقى العلم فى دمشق بعد هجرة أبيه إليها، وهناك فى أحد المساجد وجد أباه يقوم بتدريس علوم الدين فى المسجد الأموى، واقتفى ابن تيمية أثر أبيه، وأخذ يدرس علوم الدين على أيدى علماء المذهب الحنبلى، وعندما شب عن الطوق وأصبح فى السابعة عشرة من عمره، أخذ يلقى دروسًا دينية فى أحد المساجد الصغيرة بدمشق، وبعد أن بلغ مبلغ الرجال أخذ يلقى درسه من المسجد الأموى، وكان كل ذلك فى وقت اجتياح التتار بلاد المسلمين، وعلى مدار عمره تعرض ابن تيمية للسجن أكثر من مرة، وكان معظم هذه المرات بسبب آرائه الدينية، أو تحريضه الناس على «النصارى» أو كلامه فى أمور العقيدة وصفات الله وجلوسه على العرش بغير المذهب الذى كان يؤمن به الحكام، ثم توفاه الله وهو فى الثامنة والستين من عمره.
هذا هو ملخص سيرة ابن تيمية، وقد امتدحه تلاميذه كثيرًا واعتبروه شيخًا للإسلام، ولكنك ستجد أيضًا أقوالًا أخرى مختلفة من أبناء عصره والعصور التالية له، فقال الإمام القاضى الشيخ شرف الدين عبدالغنى بن يحيى الحرانى الحنبلى عنه: «كان قليل العلم مزجى البضاعة»، وكتب تقى الدين السبكى أحد أئمة المذهب الشافعى بعض الكتب يرد فيها على فقه ابن تيمية، ثم قال بعد ذلك إنه اتضح له أن ابن تيمية رجل قليل العلم لا يستحق الرد على أفكاره، وقال عنه ابن حجر الهيتمى الشافعى المذهب وهو أحد الكبار فى علم الكلام: «إياك أن تصغى إلى ما فى كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله»، أما قاضى المالكية بمصر على بن مخلوف، فقد اتهمه بالتجسيم وأنه يقول إن الله جسم، وكفَّره بسبب ذلك وأهدر دمه ودم مؤيديه، وقال: «ابن تيمية يقول بالتجسيم وعندنا من اعتقد هذا الاعتقاد كفر ووجب قتله».
لكن فقه ابن تيمية فى خصوص «تكفير الناس ووجوب قتل من اعتبروه كافرًا» هو الأولى الآن بالنظر والبحث، لأن أتباعه فى زمننا هذا يرتكبون جرائمهم باسم ابن تيمية، إذ يعتبرونه شيخ الإسلام، ومن أجل ذلك كان يجب أن نفتح تلك الصفحة لنستعرض فيها آراءه التى كتبها بنفسه لنعرف ويعرف أتباعه والمهووسون به مبلغ التطرف الذى وصل إليه، لعل تلك الصفحة فى جريدة «الدستور» يكون لها بعض الدور فى حماية ولو نفر قليل من شبابنا من الذين وقعوا تحت تأثيره بلا أدنى قدرة على الفهم والدراية والتحليل.
قال ابن تيمية فى كتابه «جامع المسائل» الجزء الرابع: «تارك الصلاة شر من السارق والزانى، إذ تارك الصلاة سواء كان رجلًا أو امرأة يجب قتله والسارق لا يجب قتله، ولا يجب قتل الزانية التى لم تحصن باتفاق العلماء، وإن كانت بكرًا بالغًا عند أبويها وهى لا تصلى كانت شرًا من أن تكون قد زنت عندهم أو سرقت، وإذا كان الناس كلهم ينكرون أن يتزوج الرجل بسارقة أو زانية أو شاربة خمر ونحو ذلك، فيجب أن يكون إنكارهم لتزوج من لا تصلى أعظم وأعظم، فإن التى لا تصلى شر من الزانية والسارقة وشاربة الخمر».
هذا رأيه، وهذا تقديره للمعاصى، لا تثريب عليه إن رأى أن معصية تارك الصلاة أشد عند الله من معصية السارق والزانى والزانية، رغم أنه ليس من حق أحد فى الوجود أن يضع ترتيبًا للمعاصى يُلزم الله به!ّ فالأمر كله عند الله الحكيم العليم، ولعل بعضنا يعرف أن الكفار عندما شجّوا رأس سيدنا محمد فى غزوة أحد، وكسروا رباعيته، قال النبى عليه الصلاة والسلام وهو يتعجب: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وهو يدعوهم إلى الله»؟ فأنزل الله تعالى قرآنا قال فيه «ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون»، ليس لك من الأمر شىء يا محمد، مهمتك فقط أن تدعوهم للإيمان، أمَّا ما فعلوه بك فأمره لله فقط، وتأمل هذه الآية لتعرف أن الله قال للرسول صلى الله عليه وسلم إنه قد يتوب عليهم! يتوب على من؟! على الكفار الذين حاربوه وكسروا رباعيته، وعندما ذكر الله تعالى توبته عليهم، أسند الفعل إليه هو وحده، ولم يذكر سببًا موجبًا لتلك التوبة، ولما قال سبحانه «أو يعذبهم» ذكر أن سبب العذاب هو ظلمهم، ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته، حيث وضع العقوبة فى موضعها، ومع هذا كله فإن العبد المظلوم لا شأن له بالقصة كلها، فهى مع الله، ولكن عند ابن تيمية تارك الصلاة يجب أن يُقتل لأنه أكثر شرًا من الزانى والزانية والسارق، هل هذا فقط؟ انتظر معى.
فى كتابه «الفتاوى الكبرى» يقول ابن تيمية: «مسألة فى أقوام يؤخرون صلاة الليل إلى النهار، لأشغال لهم من زرع أو حرث أو جنابة أو خدمة أستاذ أو غير ذلك، فهل يجوز لهم ذلك أم لا؟.
الجواب: لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار لشغل من الأشغال، لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لجنابة، ولا نجاسة ولا صيد ولا لعب ولا لخدمة أستاذ ولا غير ذلك، بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن يصلى الظهر والعصر بالنهار، ويصلى الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يترك ذلك لصناعة من الصناعات، ولا للهو ولا لغير ذلك من الأشغال، وليس للمالك أن يمنع مملوكه، ولا للمستأجر أن يمنع الأجير من الصلاة فى وقتها، ومن آخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس».
أيضًا هذا رأيه وهو حر فيه، لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل، هذا حسن، ولكن الذى ليس حرًا فيه، والذى لا يجوز لأحد أن يسمعه أو يتبعه أو يقول إن هذا من الدين هو فتواه بأن الذى يؤخر صلاة النهار إلى الليل يجب قتله بعد أن يستتاب، فإن تاب والتزم أن يصلى فى الوقت ألزم بذلك، وإن قال: «لا أصلى إلا بعد غروب الشمس لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك، فإنه يقتل».. يا لسهولة القتل عندك يا ابن تيمية، ويا لغرابة ذلك الاستحلال للدماء وكأن الله قد جعلك رقيبًا على عباده وجلادًا لمن لا يؤدون العبادات!.
وفى كتابه «الفتاوى» أيضًا يقول: «الرجل البالغ إذا امتنع عن صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن بين المسلمين» فاحذر يا من تؤدى الصلاة ثم تتهاون فى صلاة واحدة، فأنت إذا وقعت بين يدى أحد أتباع ابن تيمية فمقتول حتمًا بلا جدال، أنت مقتول مقتول مقتول، ثم لا تُدفن بعد ذلك فى مقابر المسلمين! فأين يتم دفنك إذن؟ أظن ساعتها سيتم عمل مقابر لغير المصلين!.
ولكن ماذا لو كنت تصلى الصلوات كلها وفى وقتها، هل يمكن أن تنجو من ابن تيمية؟.. لا أظن ذلك فابن تيمية يقول لنا فى كتابه «الفتاوى» الجزء الحادى عشر عن رجل يصلى فى بيته كل الصلوات، ولكنه لا يذهب إلى المسجد لصلاة الجماعة: «هذه الطريقة طريقة بدعية مخالفة للكتاب والسنة ولما أجمع عليه المسلمون، والله تعالى إنما يُعبد بما شرع لا يُعبد بالبدع، قال الله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقًا، كفر يجب أن يستتاب صاحبه منه فإن تاب وإلا قتل».. فاحذر أيها المسلم فأنت مقتول لو لم تشهد صلاة الجماعة فى المساجد، أو كنت تعتقد بأن صلاتك فى بيتك أفضل من صلاة الجماعة فى المسجد!.
فإذا كنت فى دولة لا تطبق شريعة من شرائع الإسلام وفقًا لمنظور ابن تيمية وفقهه، كأن تكون قد سمحت ببيع الخمور لغير المسلمين مثلًا، أو الإقراض بالفائدة البنكية التى يرى البعض أنها ربا، أو لم تأخذ الجزية من غير المسلمين، فإنك يجب أن تُقاتل تلك الدولة، وفى ذلك يقول ابن تيمية: «وكذلك كل من امتنع عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة أو الباطنة المعلومة، فإنه يجب قتاله، فلو قالوا: نشهد ونصلى ونصوم ونحج ونزكى ولكن لا ندع الربا ولا شرب الخمر ولا نجاهد فى سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى، ونحو ذلك، قُوتلوا حتى يفعلوا ذلك»، فالقتال مفروض عليك ولو كنت من دعاة السلام، ولكن لا سلام عند ابن تيمية ولكن القتل والقتال والتكفير.
ولكن ماذا لو توضأت يا سيدى المسلم، وأردت أن تصلى صلاة الجماعة كلها فى وقتها، وظل وضوءك معك، ولم ينقضه ناقض وصليت الظهر مثلًا وأنت بكامل هذا الوضوء، ثم حفظ الله عليك هذا الوضوء وجاء وقت العصر، وذهبت للمسجد لتصلى مع الجماعة، ومرة أخرى أقول كنت متوضئًا من قبل لصلاة الظهر، وصليت العصر بوضوء الظهر فهل يمكن أن تنجو من القتل؟ لا يا سيدى، أنت واهم، فأنت حينئذ من المقتولين لأنك فى منزلة الكفر، وخذ عندك ما قاله ابن تيمية فى كتابه الفتاوى: «قوله تعالى (إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا) يقتضى وجوب الوضوء على كل مصلٍ مرة بعد مرة، فهو يقتضى التكرار، بل هو معلوم بالضرورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يأمرنا بالوضوء لصلاة واحدة، بل كان يتوضأ كلما صلى، ولو صلى المسلم صلاة بوضوء، وأراد أن يصلى سائر الصلوات بهذا الوضوء: استتيب فإن تاب وإلا قُتل».
وخذ عندك فى كتاب الفتاوى لابن تيمية غير ذلك، من يصلى الجمعة فقط يُقتل، من لا يصلى السنة الراتبة يُقتل، المعتقد بعدم وجوب الصلاة يُقتل، أما المقر بوجوب الصلاة ولكنه لا يؤديها كسلًا، فإنه يستتاب، فإن أصر على كسله يُقتل، ومن يصلى الجماعة بل ويقف إمامًا للناس فى الصلاة ولكنه للأسف يتعاطى «الحشيش» يُقتل، ومن يقول إن الصلاة فى المساجد التى فيها أضرحة مستحبة يُقتل، فماذا عن الصوم؟.. يقول ابن تيمية فى «الفتاوى»: من لا يصوم رمضان يُقتل، وعليك أن تنتبه يا أى فقيه يرى أن الخمر غير محرم، انتبه يا كل من تتبع المذهب الحنفى. ففى كتاب الفتاوى يرى ابن تيمية أن من يفتى بأن القليل من الخمر الذى لا يُسكر حلال يجب أن يُقتل، ومن أباح من الفقهاء شرب الحشيش فإنه يُقتل، وشارب الحشيش يُقتل، مع أن شارب الخمر لا يُقتل ولكن هكذا أراد ابن تيمية!.
ولكن من الذى يجب عليه أن يقوم بهذا القتل العظيم؟ من عند ابن تيمية صاحب الحق فى إقامة الحدود؟.. يقول ابن تيمية إن الحاكم هو الذى يجب عليه إقامة الحدود، فإن لم يفعل أو كان هو نفسه من الذين يضيعون الحدود، أو لا يوافقون على قتل تارك الصلاة أو المرتد أو الذى لا يصوم أو غير ذلك من الذين يجب قتلهم وفقًا لرأى ابن تيمية، فإنه فى هذه الحالة يجب أن يقوم نفرٌ من المسلمين بتطبيق حدود ابن تيمية على مخالفيها، وهو بنفسه قام من قبل ومعه جماعة من أنصاره بتنفيذ حد على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجموه هو ومن كان يحتمى به ولكنهما استطاعا الهرب.
ويرى ابن تيمية أن قيام مجموعة من المسلمين بإقامة الحدود فى البلد الذى لا يطبق تلك الحدود هو من فرائض الإسلام، ولكنه يشترط لذلك ألا يعرض هؤلاء - منفذو الحدود- أنفسهم للخطر، فإن استطاعوا إقامة الحدود سرًا فبها ونعمت، والكلام عن ابن تيمية كثير ويحتاج إلى كتاب وكتاب وكتاب، ولكن علماء العصر لم يفعلوا إلا الوقوع فى الإعجاب بابن تيمية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.