رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما لم يكتبه «ابن همام».. التقرير الأخير إلى سارة

تقارير إلي سارة
تقارير إلي سارة

• • مشاهد سريعة

(1)

- أحيانا أجلس مع نفسي بعد منتصف الليل، وأبدا في طرح أسئلة والإجابة عليها، استخدم في ذلك كل شيء يدور في عقلي، منطقي وغير منطقي، يمكن أن يقال أو لا، وأرد بدلا عن الآخرين، أجعلهم يقولون ما أريد، وأطير وأغطس بالساعات، وأظهر على الشاشات، وأحيانا أحمل سكينا وأتسلق «مواسير المياه» إلى شقة نتنياهو، وبعد تنفيذ المهمة وانطلاق صافرات الإنذار وقبل أن أُضبط، أقفز من طابقٍ عالٍ مرتديا ملابس «فرافيرو» وأهبط في مطار عمان، وأرتدي الشال، وأجوب في العالم، بينما يبحثون عني. ولكن بالطبع لا أكتب ذلك ولا أخبر به أحدا.

(2)

فوق محور جامعة القاهرة جلست بجوار النافذة داخل الميكروباص، وأخذت أفكر، لماذا أشعر بشيء من الكآبة، ولم يحدث أي شيء، وفي خلفية عقلي تدور كواليس آخر عملٍ قرأته ليلة أمس، الذي «انتهى فيه تماما» مؤلفه، وأفرغ فيه نفسه، حتى أنني مع نهاية اليوميات شعرت أنه تحول إلى قربة جلدية على شكل إنسان، ليس فيها شيء من الداخل.

(3)

من منطقة بعيدة جدا وموغلة في النفس، جاء أحمد مجدي همام بتقاريره إلى سارة، مساحة وحالة الكتابة كانت قاسية جدا، وحادة كشفرات الموسى، تقطع وأحيانا تستخدم للتجميل!

«الكتابة الفاجرة» هكذا يمكنني به توصيف ما التهمته سريعا من كتاب «تقارير إلى سارة»، المؤلف يضرب بخياله في كل مكان داخل العقل والنفس، وكلماته ملء الأرض طولها وعرضها، لا شيء يشغله وهو يكتب. كل العالم بناسه ونسانيسه ومخلوقاته أقزام لا ترى أمام حديثه عن حبه الوحيد، وكما قال هو لمديره في أحد التقارير: «أبذل مجهودا جبارا في الحب يا مدير». بالفعل ما قرأته كان جبارا.

.. «أحب الكتابة الغاضبة والمتوحشة، أحب أن أشم رائحة الدم مختلط بالعفن بين السطور، الكتابة الحية النابضة والرطبة بالدم والدموع والمني والعرق.. لأن "الكتابة الحذرة كتابة ميته" هكذا يقول شيخ الطريقة بوكوفسكي وأنا أقول آمين».. هذا هو عقل الكاتب الذي كنت أتعامل معه.

رغم مساحة الكآبة الواسعة التي تطل من أوراق الرواية والتي تصل لحد الـ +18 بؤس كما أخبرني وأنها «محاولة لتلخيص المأساة» كما كتب في الإهداء، فهو كاتب خفيف الظل جدا، ستضحك معه كثيرا.

(4)

استخدم المؤلف ألفاظا بذيئة جدا، وهذا من الأمور التي تزعجني، إلا حينما توظف، ولو أني لا أعرف المؤلف شخصيا، وحجم موهبته، لظننت فيه سوءا، ولكن بعد ذلك دخلت عقله، وبدأت أحس بنبض خياله.

(5)

- الحب مواجهة كبرى

قامر أحمد مجدي همام المقامرة العظيمة، مقامرة الفاتحين حينما يرددون إمام «النصر أو الشهادة»، والمغبون حينما يضع أمواله جميعها في حوزة «مستريح» معتقدا أنه سيحقق عائدا 100% في أيام.

المؤلف في تقاريره التي كتبها لمحبوبته، راهن على كل شيء، ولم يكن بحوزته شيء سوى روحه التي، أعتقد، أنه تمنى لو توصل العلم لطريقة تسمح له باستخلاصها من جسده ومنحها لإنسان آخر لفعل.

(6)

ذهبت مع المؤلف إلى أرمينيا، وزرت معه لبنان عدة مرات، واحتسيت أنواعا متعددة من الخمور، وأنا بالأساس لا أشرب، وأمسكني الأمن الداخلي التابع لحزب الله اللبناني، وقضيت معه وقتا عصيبا، وأحببت فتاة إثيوبية التقاها هو وصديق له حينما طلب هاتفها ليجري مكالمة، وشعرت بالذنب؛ لأن سارة تنتظره في القاهرة وستغضب حينما تعرف أنه يفعل ذلك. ربما يحمر وجهها اشتعالا وتخاصمه عدة أيام، و«يحفى» هو خلفها محاولا إرضائها من جديد. لماذا أشعر أنا بالذنب بينما سارة تنتظره هو؟

(7)

في بداية الحكاية سألت نفسي، من هي سارة، وهل هناك امرأة تستحق كل هذا العناء، ومع الوقت لم أهتم كثيرا لشكلها، فقد وصلت لي الرسالة، أنها «الرسالة» التي نزلت على «ابن همام» من السماء فـ«أبرق برق في نواحيه ساطع يجلجله من باطن الرجل في الشوى» ولم سوى هذا النور، لا يهم إن كنت أرى ما يراه، ولكني أعلم أن عالمه لا يُحتمل أن يكون فيه أجمل منها.

(8)

ملخص الحكاية، يوميات يكتبها أحمد مجدي همام إلى حبيبته سارة، يحكي لها تفاصيل يومه، الفارغ في كثير من الأحيان، أهدانا اللاشيء الممتلئ الذي يعيث في النفس، حدثنا بكل صراحة وبساطة عن أدق الخيالات والخزعبلات التي تدور في عقله. حدثنا عن حبه لسارة من «معصمها، والكولون، والكيرلي» ونميمتهما عن الناس، وكان ينتظرها وقتا ما لم تكون موجودة فيه حتى يذبحا كل من مروا من أمامه ولم تصيبهم نميمتهم، كان يتوعد المارة بذلك، لما تيجي «سارة هوريكم»، كما وضع الوصايا العشر لمصالحة فتاة، وليست أي واحدة. هي سارة.

(9)

أصاب سارة مرض عنيف، وبعد أيام سافر ابن همام إلى لبنان لاستكمال ورشة في الكتابة، لم يكن يريد السفر، ولكنها طلبت منه ذلك، علم هناك بخبر رحيلها من شقيقه، ثم علمت لبنان جميعها من صوت حزنه.

ما حدث بعد ذلك كان ساحقا، رأيت أحمد مجدي همام وهو يهرول ويصرخ، ويجري بين أروقة الفندق الذي كان يقيم فيه بلبنان، لم يعد هناك شيء يمكنه أن يفعله، ووقفت مع أصدقائه من حوله لا أعرف ماذا يمكنني أن أفعل له.

(10)

تقرير أخير إلى سارة

.. ما هذا الشيء الكبير الذي جمعكما، كنت قد أعتقد أنها مبالغة تليق بهيبة الرحيل، ولكن التقارير كُتبت قبله، الحكايات موجودة من الأساس، الجلال جلالك وليس الذهاب إلى مكان آخر.

لا أعرف إن كان سيأتي أحدهم يوما ما، ينقب في صفحات الأدب المصري، فيجد تلك اليوميات، ليصنع من قصتكما فيلما أسطوريا، ولكن ما أعرفه أن القصة تستحق، تستحق جدا.

ربما لن تقرأي رسائله، لن تؤنسي وحدته، لن يكتب لأحد هذا الغزل مرة أخرى، ربما لن يكتبه من الأساس، فهناك أشياء لا تتكرر في الحياة مرتين، ولكن ما أعرفه أنه لن يتوقف عن الكتابة، فعجينته الأولى عبارة عن حروف وكلمات معجونة بدخان وخمور، هو يشبه رواية متحركة، عقله فانتازيا، تصوري أنه أخذ يفكر فيما قد يحدث لكوكب آخر إذا ما نجح البشر في العيش هناك.

الحياة عنده «سارة وأشياء أخرى» والآن لم يبق له سوى الأشياء الأخرى. وتلك الأشياء الأخرى هي الحياة بالأساس، قد يجد نافذة يوما ما تسمح له بأن يطل من جديد على العالم، أتمنى له ذلك، ربما يكون قد وجدها.

هو يحاول، يبدو كذلك؛ لأن الحياة لن تتوقف، والموت لا يساوم.

ربما لم تمنحكما الحياة، الحياة، لكن أهدتكما الخلود، من خلال تلك الشرارات المتطايرة، التي جُمعت في كتابه «تقارير إلى سارة.. يوميات الحب والسفر والموت».

لروحكما السلام..