رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أصابع حبيبتي».. لغز عجوز جاء من الأقاليم بمسمار في جبهته

أشرف عبد الشافي
أشرف عبد الشافي

تحدث صديق معي في يوم مضى عن الجمال الذي يكمن في أصابع الفتيات، وظل يروي لي خصالها الحسنة، وكان يميز بين الإصبع الملفوف والرفيع، والممتلئ، وبصراحة لم أكن أهتم كثيرا بهذا الأمر، فقد كنت أعيش حالة الفكر العذري الذي يتأمل في جمال الروح، ولكن بعد زمن وجدتني أفكر مثله، أهتم بالكف كاملا، رسمته ورشاقته، حتى أنه يُبين جمال فتاة عن أخرى، وهو أول ما يلتصق بيدك في حركة «هاتي إيدك أعديكي الطريق» وهو الذي يشرف على إعداد الطعام، والذي يربت على كتفك حينما تكون بائسا، ومع بعض «المناكير» يتحول للوحة جمالية لا يمكن لـ«بيكاسو» أن يختلق واحدة مثلها.

الحقيقة أن الأصابع ليست شيء هيّن على الإطلاق، حتى أنها تخبر حبيبتك بما في قلبك حينما يصمت لسانك، بينما تداعب خصلات شعرها المستريحة وراء كتفها الأيمن، وتضيف بهاءً لرسالة الصمت الغني بالمشاعر، حينما تقترن مع كلمة «ششش» بينما يوضع الإبهام على الشفتين.

في رواية «أصابع حبيبتي» بدى واضحا عمق تفّهم الكاتب الصحفي والروائي أشرف عبد الشافي، للأصابع وتقديره لها، حتى أنه خصص لها عنوان العمل، في بادئ الأمر قد تتعجب، ولكن في خضم الأحداث ستشعر بلمسات تلك الأصابع تلاعبك أنت نفسك، وتعبث في عقلك، وتجرك من أنفك إلى قلب الحكاية، إلى جانب هذا ستلمس بغضه الذي سمعته منه أكثر من مرة في جلساتنا، لهؤلاء أصحاب الجلابيب القصيرة واللحى التي لا تعبر عن قلب سليم وملأوا الحياة شكليات لا تفضي لخير.

• الجميلة جميلة

«جميلة» وهي البطلة التي جاءت من المجهول لتأخذ بيد «جابر عبد العظيم» من أرض الخيبات إلى النور، ظلت تحاكيه عن أهمية الأصابع، ودور كل إصبع، أعاد جابر اكتشاف الحياة مع جميلة بكل صورها، حتى أن ما مات في قلبه وجسده عاد للحياة بعنفوان، بفضل تلك الحورية التونسية التي كلما نطقت اسمه بالجيم المتعطشة، تكاد ضربات قلبه تخترق صدره وتتحول لطبول تعلن الحرب على العالم.

«النوفيلا» كما يحب صائغ الكلمات «عبد الشافي» أن يطلق على عمله، تمتد في طريقين لا ثالث لهما رغم تعدد الحكايات، أحدهما الحياة العادية، والآخر الحياة الممتعة البعيدة عن مكر العالم، الخارجة عن العقل والحسابات. لا يمكننا أن نحكم على صواب أو خطأ الفكرة، فكل امرءٍ مسؤول عما يفعل.

جابر عبد العظيم، الذي بلغ من العمر 58 عاما، وجد نفسه فجأة بلا شيء، المسمار الذي اخترق رأسه طفلا في بداية الحكاية، يبدو أنه ظل يهبط حتى اخترق قلبه طوال مسيرته في الحياة فقسمه لنصفين، أحدهما غرق في نهر الحياة، والباقي لم يعد يصلح لشيء، وإذ بجميلة الفتاة التونسية المدهشة، تأتي من مكان ما، وكأنما هي مسحة القدر الناعمة على جبهته، جاءته على كف صاحبة النصف قلب هي الأخرى، تجتمع به، فيعود القلب قطعة واحدة مكتملة تنبض فيها الحياة من جديد.

جابر الذي عمل في الأرشيف الوطني، وكان موظفا محترما، مرموقا، مثقفا كما يبدو خارج حارته، كان يعيش معاناة عظيمة، معاناة تحطم الرجال وتمزقهم تمزيقا، والتعاطي معها يحولك لشيء من اثنين إما «قاتل» أو «جابر عبد العظيم» والأخير هو الخيار الأسوأ.

عائلة «هريسة» اغتالت شرفه بمساعدة زوجته اللعوب «مديحة»، وأما «غادة» ابنته المخلوق الوحيد الذي كان بمثابة «عمود التنكيس» لهذا المخلوق المتهالك، اقتربت جدا من قلبه، حتى اخترقته بسكين مسمم، بمعاونة مد جهلاء حولوا ابنته التي علم أصابعها العزف يوما، إلى واحدة أخرى من قطيع لا يبطن ما يظهر من فضيلة.

وجميلة التي فقدت الزوج يوم رأت خيانته، وفقد الابن يوم ارتمى في حضن أبيه، ثم زوجة الأب، شعرت أن العالم بوسعه مكان ضيق جدا، يضيق على صدرها وحدها.


• حلاوة الحياة

ردد بطل الحكاية أكثر من مرة اسمه مقترنا بمواقف «أنا جابر عبد العظيم أفعل كذا»، كان مستغربا لتصرفاته جدا بعدما التقى جميلة، وكأنما يعيد اكتشاف الحياة مع التي جاءته تحمل روحها هما ثقيلا لا يمكنها معه الحياة.

في أكثر من موضع داخل الرواية سترى جابر الذي يعيش داخل استوديو كائن فوق سطوح انتهى الحال به إليه، يعيد النظر من جديد للأشياء ويرى جمالها بفعل تأثير جميلة، التي أزالت الغشاوة عن روحه، وأحيت كل ذرة فيه، وجعلته يستمتع بكل شيء. يرى لوحة «صلاح عناني» التي كانت على الحائط طوال الوقت ولم يكن يشعر فيها بجمال، ويحس بشيء من البهجة يسري في نفسه؛ لأنه هذه المرة رآها بعين عاشق.

هذا الشيء الذي يشعل القلب والروح يجمل الأشياء قطعا، تسميه حبا، تعلقا، رغبة، شهوة، مهما كان ما يكون، فبعيدا عن المسميات، جابر وجميلة كانا يخطفان لحظات من الحياة لنفسهما، ثم ليحدث ما يحدث.

• الأرواح المتعبة تتلاقى في رحلة البحث عن المفقود

ومع ذلك، وبينما أقرأ الرواية استعادت ذاكرتي المهترئة، شيء من كتاب للراحل الدكتور مصطفى محمود «55 مشكلة حب»، كانت الحكاية قريبة من تلك، المشكلة كانت بعنوان «عقب سيجارة» وكانت تحكي عن رجلا انتهى زواجه بخيانة ثم طلاق، وظل يعربد في الأرض، حتى التقى امرأة عليلة ليس فيها شيء يجذب، كانت منتهية مثله، ولكن شيء ما جمعهما، وكان رد الدكتور على تلك الرسالة التي جاءته من هذا الشاب، أن هذا ليس حبا، وإنما «مرض عصي وجد دواءه في هذه المرأة»، وإذا نجحت الرواية في ري ذاكرتي الناضبة، فهو أثر جلل!

• لماذا يا جابر؟

في وقت ما ستكره جابر عبد العظيم، ستكرهه لسلبيته، وتخاذله، ستكرهه لأنه حتى الأمل الأخير الذي أحيا كل ميت فيه، تركه هكذا، بشيء من الخوف والفشل الذي رافقه طوال حياته، ستود أن تدق عنقه بيدك، لأنه فرط في الحبل الأخير الذي كان يمكنه تسلقه إلى الجنة.

رسالة جابر التي ستكرهها، أن ما تصل إليه في الحياة، ليس نتيجة للظروف، ولكن نتيجة لتصرفاتك.

الكاتب استخدم أسماء وتواريخ وأحداث حقيقية، ليجعل العمل يختلط أمام عينيك بين الواقعية والخيال، كما أنه استخدم جرأة كبيرة في الكلمات والعرض والوصف الدقيق، ربما تفتح عليه نار المتحفظين، ولكن صاحب الروح الشقية كما نعرفه، لا يعرف المهادنة أبدا.

العمل في البداية ربما تشعر معه بالتشتت، ولكن بمجرد أن تفتح الأبواب وتدخل لعالم جابر عبد العظيم، هذا العجوز الذي سُحب بساط الحياة من تحت قدميه حتى تركه معلق في الهواء بين السماء والأرض، سترغب في معرفة المزيد، ستريد أن تعرف إلى أين تصل الحكاية؟ ومتى ينتفض؟ وماذا سيفعل بهدية القدر له؟ وكل هذا مغلف بلغة قديرة من جواهرجي الكلمات.