رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبوحامد الغزالى «حجة الإسلام».. من البحث عن الشهرة إلى التعمق فى الإيمان



الإمام أبوحامد محمد الغزالى، «حجة الإسلام» «٤٥٠ هـ- ٥٠٥ هـ ١٠٥٨م- ١١١١م»، أحد أبرز علماء المسلمين على مر العصور، ولد فى القرن الخامس الهجرى، اشتغل بالفلسفة والفقه وعلم الكلام والتصوف والمنطق، وترك فى كل تلك الفروع إرثًا عظيمًا من الكتب ما زال المسلمون ينهلون منه إلى اليوم.
كانت نشأته فى «طوس»، ثم انتقل إلى «نيسابور» ليلازم أبا المعالى الجوينى «إمام الحرمين»، وتلقى عنه معظم العلوم، وحين وصل إلى عمر ٣٤ سنة، رحل إلى بغداد، التى وصلها فى جمادى الأولى سنة ٤٨٤ هـ، فى عهد الخليفة المقتدى بأمر الله العباسى، حيث عمل مدرسًا فى المدرسة النظامية فى عهد الدولة العباسية، بطلب من الوزير السلجوقى نظام الملك.
وأثناء ذلك، نال شهرة واسعة لم ينلها أى من معاصريه، وقصده الطلاب من كل الأقطار لدراسة العلوم الشرعية على يديه، حتى قيل إنه كان يجلس فى مجلسه أكثر من ٤٠٠ من شخص ما بين علماء وطلاب.
فى بداياته، سخّر الغزالى قلمه للدفاع عن الأمير، وسبّ من عاداه من أجل المال والشهرة، لكنه سرعان ما أنقذته فطرته، ودخل فى صراع نفسى شديد بين مجد تركه وفقر يخشاه، فبدأ يتفكر فى الكون، وكيف يبدأ رحلة السير إلى الله، واختلى بنفسه يجمع بين الذكر والفكر، ليعود بعدها إمامًا للمسلمين، مجددًا للفكر الدينى ليربط الدين بالحياة.
فقد طرأ تحول فى حياته جعله يزهد المال والشهرة، ويرتقى بنفسه روحيًا من خلال رحلة البحث والتأمل فى ملكوت الله، وقرر اعتزال الناس والتفرغ للعبادة وتربية نفسه، فخرج من بغداد خفية، وظل يتنقل فى رحلة بلغت ١١ سنة بين دمشق والقدس والخليل ومكة والمدينة المنورة، كتب خلالها كتابه المشهور «إحياء علوم الدين» خلاصةً لتجربته الروحية، قبل أن يعود بعدها إلى بلده «طوس» متخذًا بجوار بيته مدرسة للفقهاء، ومكانًا للتعبد.
يقول الغزالى متحدثًا عن نقطة التحول فى حياته من البحث عن الشهرة إلى التعمق فى الإيمان: «ثم لاحظت أحوالى، فإذا أنا منغمس فى العلائق، وقد أحدقت بى من الجوانب، ولاحظت أعمالى- وأحسنها التدريس والتعليم- فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة فى طريق الآخرة. ثم تفكرت فى نيتى فى التدريس، فإذا هى غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أنى على شفا جرف هارٍ، وأنى قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافى الأحوال.. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعى الآخرة، قريبًا من ستة أشهر، أولها رجب سنة ٤٨٨ هـ. وفى هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لسانى حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسى أن أدرس يومًا واحدًا تطييبًا للقلوب المختلفة إلىّ، فكان لا ينطق لسانى بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة. ثم لما أحسست بعجزى، وسقط بالكلية اختيارى، التجأت إلى الله التجاء المضطر الذى لا حيلة له، فأجابنى الذى يجيب المضطر إذا دعاه، وسهّل على قلبى الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب».
بعد خروجه من بغداد، ووصوله إلى دمشق، مكث قرابة السنتين منقطعًا للعبادة والتأمل والتفكر، بعيدًا عن الناس، منشغلًا بتزكية النفس التى عشقتْ حب الشهرة، وأغراها ثناء الناس ومديحهم لها، كان يعتكف فى مسجد دمشق، يصعد منارة المسجد طول النهار، ويغلق على نفسه الباب.
بعد ذلك، رحل الغزالى إلى القدس واعتكف فى المسجد الأقصى وقبة الصخرة. قبل أن يتجه إلى مدينة الخليل فى فلسطين، ومن ثمّ سافر إلى مكة والمدينة المنورة لأداء فريضة الحج، وعاد إلى بغداد، بعد أن قضى ١١ سنة فى رحلته، ألف خلالها أعظم كتبه «إحياء علوم الدين».
لم يدم طويلًا حتى أكمل رحلته إلى نيسابور، ومن ثمّ إلى بلده طوس، وهناك لم يلبث أن استجاب إلى رأى الوزير فخرالدين الملك للتدريس فى نظامية نيسابور مكرهًا، فدرّس فيها مدة قليلة، وما لبث أن قُتل فخرالدين الملك على يد الباطنية، ثمّ رحل الغزالى مرة أخرى إلى بلده طابران فى طوس وسكن فيها، متخذًا بجوار بيته مدرسة للفقهاء وخانقاه «مكان للتعبّد والعزلة» للصوفية، ووزّع أوقاته على وظائف من ختم القرآن ومجالسة الصوفية والتدريس لطلبة العلم وإدامة الصلاة والصيام وسائر العبادات، كما صحح قراءة أحاديث صحيحى البخارى ومسلم على يد الشيخ عمر بن عبدالكريم بن سعدويه الرواسى.
يروى بعض الناس حال الغزالى، فقد كان التحول فى حياة الإمام الغزالى واضحًا لمن عرفه فى بداياته، وهو ما يتضح عند دخوله بغداد أول مرة، وعند عودته إليها بعد رحلته الطويلة.
يقول الفقيه أبومنصور الرزاز: «دخل أبوحامد بغداد، فقوّمنا ملبوسه ومركوبه بخمسمائة دينار. فلمّا تزهد وسافر وعاد إلى بغداد، قوّمنا ملبوسه بخمسة عشر قيراطًا».
ومن حيث كان مولده ونشأته، كانت عودة الإمام الغزالى إلى مسقط رأسه «طوس»، ليمكث فيها بضع سنين، إلى أن توفاه الله يوم الإثنين ١٤ جمادى الآخرة ٥٠٥ هـ، الموافق ١٩ ديسمبر ١١١١م.
ومما يروى عن اللحظات الأخيرة فى حياة صاحب «إحياء علوم الدين»، ما قاله شقيقه «أحمد» ونقله «أبوالفرج بن الجوزى» فى كتابه «الثبات عند الممات»: «لما كان يوم الإثنين وقت الصبح توضأ أخى أبوحامد وصلى، وقال: «علىّ بالكفن»، فأخذه وقبّله، ووضعه على عينيه وقال: «سمعًا وطاعة للدخول على الملك»، ثم مدّ رجليه واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار. وقد سأله قبيل الموت بعض أصحابه، فقالوا له: «أوصِ». فقال: «عليكم بالإخلاص»، فلم يزل يكررها حتى مات.
وهكذا كانت حياة الغزالى، بين بداية كان مولعًا فيها بالشهرة، ونهاية كان الإخلاص عنوانها، فالشهرة والمال قد يمثلان شيئًا مهمًا فى حياة الناس، لكن ما هو أهم أن تقدم على عمل مفيد للإنسانية وللإسلام فى آن واحد، وأن ترتقى بروحك، بعيدًا عن الأطماع والبحث عن مال وشهرة قد لا يدومان.