رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أغانى المهرجانات.. قضايا ملتبسة



ما زالت أغانى المهرجانات موضوعًا لنقاش ساخن اختلطت فيه أوراق كثيرة من قضايا متشابكة.. كانت ثورة الغالبية العظمى على الأغانى بسبب كلماتها ومدى ما انحدرت إليه من إسفاف، وطالب الكثيرون بمنعها وحظرها، حتى إن نقيب الموسيقيين هانى شاكر وجّه خطابًا إلى كل أماكن العروض الموسيقية لوقف التعامل مع مطربى المهرجانات، وكان اعتراض أولئك فى الأساس من وجهة نظر أخلاقية، انطلاقًا من معيار أن «هذا عيب» وما شابه.
هنا لا بد من القول إن للفن معايير أخرى عند نقده وتقويمه غير المعيار الأخلاقى، كما أن المفاهيم والمعايير الأخلاقية ذاتها تتغير من زمن لآخر.
أيضًا ناصر البعض خطوة هانى شاكر فى محاولته منع تلك الأغانى، وهنا أيضًا يجب القول إن التصدى بالطرق الإدارية للظواهر الفنية أو حتى المتشحة بثوب الفن لم يؤدِ إلى أى نتائج عملية عبر التاريخ، ومن باب أولى لن يؤدى لنتيجة فى زمن الإنترنت.
أما الذين دافعوا عن أغانى المهرجانات فقد استندوا إلى أن تاريخ الأغانى لم يكن خاليًا قط من الكلمات الخليعة و«الإباحية» المرتبطة بالموضوع الجنسى، وأن الإباحية ترافقت مع تاريخ الفن وشكلت دومًا رافدًا تحتيًا من روافده.
لكن أولئك المدافعين يتناسون أولًا أن كلمات الأغانى التى يشيرون إليها كانت «صريحة» وليست بذيئة، وهناك فارق كبير.
ثانيًا أن السؤال هنا هو: هل كانت هذه الإباحية جزءًا من تكوين فنى، أم مجرد إباحية عارية من أى فن؟ ذلك أنه لا يمكن تمجيد «الإباحية»، بحد ذاتها، ولا قبولها إلا إن كانت جزءًا من تكوين فنى، فإذا سقط ذلك التكوين- كما فى حالة أغانى المهرجانات- فإن تلك الأغنيات تغدو مجرد إسفاف، وبذاءة، لا يشفع لها شىء.
ليس ثمة جديد فى ألحان تلك الأغنيات، هى ذاتها الألحان التى تعتمد على إيقاع راقص صاخب، ولا شىء أكثر من ذلك، هذا بينما تقوم الأغنية على أضلاع ثلاثة مترابطة: المؤدى، واللحن، والكلمات، فإذا سقط ضلع منها تهاوى العمل كله، ومع كلمات كتلك التى سمعناها تسقط تلك الأغانى بعيدًا عن نطاق الفن، لأن الفن ينفر بجوهره من المباشرة والفجاجة ويعتمد على الإيحاء أكثر من التصريح.
فى الدفاع عن تلك الأغانى قال البعض إنها تنتمى إلى الفنون الشعبية، فلا يجوز منعها، وهنا يجب القول إن للفنون الشعبية تعريفًا محددًا وينابيع محددة، قد يستلهم الفنان مادته منها، كما فعل أبوبكر خيرت فى متتالياته الشعبية، أو ينشر تلك الفنون مؤديًا، مثلما فعل فيما مضى محمد طه وخضرة محمد خضر، وأبودراع، وسيد درويش الطنطاوى، وغيرهم ممن تخصصوا فى فن الموال، وأيضًا منشدو السير الشعبية أدهم الشرقاوى، وشفيقة ومتولى، وغيرهما من النصوص المتوارثة التى نقّحها الإبداع الشعبى المتصل على مدى عقود طويلة.
أما أغانى المهرجان فلا علاقة لها بالفن الشعبى، لا من حيث المفهوم ولا من حيث التوارث ولا من حيث الأداء.
أيضًا يدافع البعض عن الأغانى بقولهم إن مطربى تلك الأغانى يمثلون البيئة التى خرجوا منها، كأنما ليس ثمة طريقة لتمثيل البيئة إلا على هذا النحو! فالسؤال هنا هو: ألم يكن ممكنًا لأولئك المطربين أن يمثلوا الشريحة التى ينتمون إليها بطريقة أخرى، وبموقف وبحالة فنية أخرى غير البذاءة؟! ألم يخرج طه حسين من بطن القرى المظلمة والجهل والجوع ثم عبّر عن كل ذلك بطريقة أخرى لا تتطابق مع سطح الواقع الذى خرج منه، بل مع جوهر ذلك الواقع؟ إذن لا يمكن القول بأن الحالة الاجتماعية المتردية لن تجد تعبيرًا عنها إلا بوسائل فنية متردية.
أخيرًا، يقول البعض إن تلك الأغانى تعكس صورة المجتمع، ولهذا شعر الكثيرون بالفزع من الحقيقة، لكن ذلك أيضًا غير صحيح، لأن المجتمع الذى يفترض أن أغنيات «حمو بيكا» تعكس صورته يشتمل أيضًا على وجه الدكتور مجدى يعقوب والدكتور محمد غنيم وغيرهما، مما لا تعكسه تلك الأغانى، فهى إذن لا «تعكس صورة المجتمع»، إنما صور من شريحة أو فئة لا أكثر.
وهنا يشير دكتور محمد عمران، أستاذ الفلكلور بأكاديمية الفنون، إلى الجانب الأهم حين يقول «إن من الضرورى تحليل تلك الظاهرة اجتماعيًا، لأن هذه الأغانى وجمهورها ينتميان إلى طبقة من قاع المجتمع، تسكن العشوائيات، لم يتلق أبناؤها تعليمًا جيدًا ولا علاجًا طبيًا ولا وجدوا رعاية ثقافية كافية، فالمشكلة فى أسباب الظاهرة وليست فى الألفاظ النابية».
والدكتور عمران مصيب مائة فى المائة، فقط تتبقى إضافة صغيرة، أن تحليل الظاهرة لا يعنى أن نضفى عليها صفة فنية، مثلما نقوم بالتحليلات لمعرفة سبب مرض ما من غير أن ندعى أن ذلك المرض «نوع من الجمال»! أو«نوع من الفن».
وفى النهاية لن تنفعنا هنا النظرة الأخلاقية ولا القرارات الإدارية ولا المحاكم ولا حتى السجون، لن ينفعنا سوى تمكين الفن الحقيقى، وغرسه والرجوع إلى حصص الموسيقى فى المدارس، وأكشاك الموسيقى فى الحدائق، وتوسيع نطاق حضور الفنون فى الجامعات، وتشجيع الفنانين الشباب، وهى مهمة مشتركة لأكثر من وزارة.. ويبقى أن الطريق الوحيد لمكافحة التردى هو التقدم إلى الأمام.