رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» داخل دار تعليم «برايل» للأطفال مجانًا

دار تعليم برايل
دار تعليم برايل


أياد صغيرة تتحسس طريقها بين طرقات مظلمة لترى النور بأناملها، تحتمي من اليأس خلف جدران الأمل، متخطية كل الكبوات التي تقف أمامها؛ لتعبر إلى الضفة المجاورة بقلوب تحوي بين أحشائها إصرار الجبال التي حافظت على شموخها لأعوام.

أذهان تحاول من خلال ثقوب صغيرة في الأوراق، أن تدخل النور إلى وجدانها بعد أن ارتضت العيش في ظلام عيونها، فاتخذت من طه حسين نبراسًا ينير عتمتها التي فرضت عليها، هكذا مكث الطفل محمد السيد، صاحب الاثنا عشر عامًا، داخل دار نور البصيرة لتعليم الأطفال الكتابة والقراءة على طريقة برايل.

السيد: أكتب روايات

ولد كفيفًا، لم يعرف النور طريقه، أتشحت الألوان بالسواد في عينيه، حتى تعلم طريقة الكتابة والقراءة بالبرايل، يمسك بقلم ذي سن معدني مدبب، لوحة معدنية، محاولًا إخراج ما في جعبته من إبداع.

قال محمد السيد، الطالب بالمرحلة الإعدادية، إنه تعلم البرايل منذ أن كان صغيرًا، موضحًا أن هذا ما جعله مميزًا في مدرسة المكفوفين التي يدرس بها، فيحصد المركز الأول دائمًا.

"نفسي أبقي أديب أو كاتب زي طه حسين ونجيب محفوظ"، هذه الرموز التي اتخذها السيد مثلًا أعلى، تسوقه طوال حياته، أبدع في العديد من ألوان الكتابة، حتى إنه كتب ثلاث روايات الأولي كانت تتمحور قصتها حول عنوان "للخير سبل عديدة"، الثانية اتخذت من التعاون هدفًا لها، أما الثالثة فدارت في أجواء مرعبة بعدما طرق الأديب الصغير أدب الفانتازيا.
منة: "برايل نور حياتي"

نبرات صوت بديع، اتخذت من السكينة والهدوء سبيلًا لتكون شخصيتها، حفظت من كتاب الله الكريم ما جعلها ترتل دون عناء، بثغر باسم، بدأت منة عماد، الحديث حول مدى تعلقها بطريقة "برايل" التي تعلمتها داخل أركان "نور البصيرة"؛ الأمر الذي أدخل الأمل إلى قلبها، وأعادها إلى الحياة.

"كنت فاكرة أن الأعمي مالوش حق يعمل حاجة"، بهذه الكلمات أوضحت منة المعاناة التي كانت قد سقطت في بئرها حينما كانت صغيرة، اعتقدت أنه ليس من حقها التعليم، والقراءة، الكتابة، الإبداع، حتى العيش لم تره حقًا لها، لأنها لا تستطع الاعتماد على نفسها، إلا أن كل هذه الأزمات قد زالت بعدما تواصلت مع أطفال يشبهونها في الدار.

خرجت منة، من بوابة الظلام، بعدما تعلمت طريقة الكتابة والقراءة ببرايل، موضحة أنها تعلمت في أقل من خمسة أسابيع، مؤكدة أن تعليمها بسيط جدًا، لكنها شاقة على المبصرين، معلقة: "لكل منا طريقة يتلقى بها المعلومة تتناسب مع قدرته".

وتابعت أنها تسعى لتنفيذ حلمها؛ تلقت دروسًا فى اللغة الإنجليزية على طريقة البرايل، حتى إنها ستبدأ مع نهاية العام الدرسي دروس المحادثة، معقبة: "البرايل نور حياتي"

* محمد: سعادتي تكمن في تعليم المئات طريقة برايل

أستاذ النور، هكذا لقب سامح محمد، أحد العاملين في "نور البصيرة"، أحد المدرسين المكفوفين الذين كرسوا حياتهم لتعليم الأطفال طريقة الكتابة والقراءة على طريقة البرايل، يعمل في هذا المجال منذ سبعة أعوام، في عقده الثالث، جلس في غرفة صغيرة، على طاولة بلاستيكية، وإلى جواره أحد الأطفال، الذي حمل داخل حقيبته ورقة، القلم المدبب لوحته المعدنية ليبدأ الدرس، الذي قد تستمر مدته لثلاث ساعات متواصلة على حسب درجة استجابة الطفل.


وسط كتب لا تملؤها سوى الثقوب، جلس كل منهم يتحسس سبيله إلى الكلمة، قال أستاذ النور، إن السن التي يبدأ فيها تعليم البرايل هى أربع سنوات، بإمكان الطفل الذي في مرحلة رياض الأطفال أن يتعلم حروف اللغات المختلفة، في غضون ثلاثة أِشهر على الأقل، لكن ربما يستمر الأمر لسنوات على حسب المتلقي، موضحًا أن دروس البرايل يتلقاها يوميًا ما يزيد على ستين طفل.


أوضح سامح، أن تعليم الكفيف منذ ميلاده، أسهل بكثير من تعليم الكفيف الذي فقد بصره سواء أكان ذلك عن كبر أو صغر، كذلك مختلف عن تعليم ضعيف البصر، متابعًا: أن لكل منهم طريقته الخاصة والصعوبات التي تواجهه، فالكفيف منذ البداية يكن تعليمه أسهل بكثير، ومن فقد بصره عن صغر يصعب نوعًا ما إزالة الثوابت التي علقت في ذهنه، إلا أنها تزول مع الوقت.

أما عن الشخص الذي فقد بصره عن كبر، فتحدث محمد، قائلًا إن أزمة تعليمه طريقة البرايل تكن أكثر صعوبة، إذ إن الثوابت الموجودة بالفعل في عقله لا يمكن إزالتها أو تنحيتها جانبًا حتى مع مرور الوقت، فهو لن ينسى شكل الأحرف التي اعتاد عليها، مضيفًا أن ضعيف البصر تكون الطريقة الوحيدة لتعليمه هي إدراكه كيفية الاستغناء عما تبقي من نظره تمامًا، معلقًا أن هناك من قرر ربط عصابة على عينه حتى يتمكن من التعلم لأن العين تساعدهم بعض الشيء.


"طباعة الكتب المدرسية والروايات" هي المهمة الثانية التي أسندت إلى، أستاذ النور، في الدار، ليجلس أمام جهاز حاسب آلي يعمل بطريقة البرامج والأوامر الصوتية، فيختار الملف المكتوب، ويعطي الجهاز أمرًا بالطباعة، فيضع الورق في عدد من آلات الطباعة بالبرايل، موضحًا أنه لا يطبع كتب دراسية وخارجية فقط، وإنما هو يطبع العديد من الروايات، الكتب الجامعية، باختصار شديد فهو يطبع كل ما يريد أي كفيف يأتي إليه طباعته.
*مدير "نور البصيرة": كرست حياتى للمكفوفين

ملاك يجول بين الحشود، ذو وجه بشوش، تري بعيون قلبها بعدما نزل السواد على مقلتيها، جميلة كإحدى أميرات الأفلام الكرتونية التي تمثل فيها الخير، الحب، الرحمة، أردت وشاح الإصرار، الصبر، على هذه الهيئة جلست صابرين محمد، خريجة كلية الخدمة الاجتماعية، إحدى أبناء مدينة بلطيم على كرسي رئيس مجلس إدارة جمعية نور البصيرة.

فقدت عيني بسبب اهتمامي بالدراسة"، بهذه الكلمات البسيطة بدأت رئيس مجلس إدارة جمعية نور البصيرة الخيرية الحديث عن قصتها، قائله إنها كانت طالبة في الثانوية العامة، فأصيبت بحساسية شديدة في عينيها، الأمر الذي تسبب لها في فقد العين اليسرى، قررت بعد هذا الأمر أن تستمر في المذاكرة بعينها اليمني فقط، مما أحدث لها انفصالًا في الشبكية، لتفقد عينها الثانية على يد أحد الأطباء الجهلاء.

قررت حينها أن تكون منصة جديدة لكسر مبدأ "فاقد الشىء لا يعطيه"، لتسحقه تمامًا، وتقرر أن تتخذ قرارها في أن تكون رسالتها العظمى في الحياة هي إعلاء صوت المكفوفين من خلال تقديم الرعاية الكاملة لهم من خلال تعليمهم القراءة، والكتابة، ودروس تقوية، والحاسب الآلي، وتوفير فرص عمل لهم داخل الجمعية، خارجها، مساعدتهم بكل الإعانات التي قد يحتجونها، ترميم أسقف المنازل، توفير سبل الحياة لهم ولعائلاتهم.

أوضحت أن فكرة الدار جاءت من خلال تجربتها المريرة مع الحياة في بلطيم، التابعة لمحافظة كفر الشيخ، إذ أن القرية لم تقدم لها سوى نظرات الشفقة، حتى أن التعليم كان يحتاج إلى مشقة كبيرة، وأفراد القرى لا يعلمون الطريقة المثلى للتعامل مع المكفوفين، معلقه "الناس كانت بتتعامل مع المكفوفبن باحتقار وشفقة ولأن القري كانت فقيرة فمكنش فيه تعليم كافي علشان الناس تعرف أن فاقد البصر مش عاجز ولا هو ملوش لزمة".

وتابعت رئيس مجلس إدارة الدار نور، أن الجمعية لها مركزين، الأول بشارع عمر بن الخطاب، بجوار مدرسة الفنون، حي العمرانية، بالجيزة، والثاني بطريق المصيف خلف مدرسة رزق حمامو، عمارة الدكتور علاء فتحي، بلطيم، مشهرة برقم 5264 لعام 2014، في الأول يقبل على تعليم طريقة برايل، في المركز الأول حوالي مائتي، الثاني عشرين طالب فقط، كما يكفل وسيلة مواصلات ذهابًا، إيابًا.

واختتمت قائله إن أهدافها التي بنيت عليها الجمعية، تتلخص في، دمج المكفوفين من خلال تدريبهم، تأهيلهم؛ لمواجهة شتى جوانب الحياة، تقديم خدمات علمية لذوي الإعاقات البصرية، إعداد كوادر يمكن للوطن الاعتماد عليها، مساعدة فاقدي البصر على مواكبة سوق العمل، إتاحة فرص تعليمية متكافئة، توفير تعليم برايل مجاني للمكفوفين.