رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معركة الوعي.. الدستور تبحث عن الهوية المصرية في منشورات قصور الثقافة


قبل شهور كنت أتحدث مع الدكتور أحمد عواض، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، كنت أحمل له فكرة محددة، وهى أن تقوم الهيئة بإصدار سلسلة كتب تسجل أحداث ثورة 30 يونيو، وإتاحتها للقراء بأسعار مناسبة.
كنت مدفوعًا بأن هناك كتابات كثيرة تنال من هذه الثورة، بل تهيل التراب عليها تمامًا، وهو ما يجب ألا نستسلم له، لأن الاستسلام هنا خيانة.
كان طبيعيًا أن أجد الدكتور عواض متحمسًا، فهو مثقف من طراز رفيع، وفنان يعرف قيمة أن يعرف الإنسان ما يدور حوله من أحداث، على الأقل ليقرر أين يقف دون وصاية من أحد.
تناقشنا يومها فى تفاصيل الفكرة، ومن يمكنه أن يتولى فريقًا بحثيًا يقوم بهذه المهمة، فالهدف يتجاوز معرفة ماذا جرى إلى الوقوف على لماذا جرى، لكننى وجدته متحمسًا أيضًا وبنفس الدرجة لمشروع آخر كان يعمل عليه بالفعل، لم يحدثنى عن تفاصيله، قال لى: سيبها مفاجأة.
قبل أيام وجدته يسألنى: هل تذكر المشروع الذى حدثتك عنه من شهور؟ قلت له: وأنتظره.
أرسل لى الدكتور عواض ١١ كتابًا ضمها جميعًا تحت عنوان واحد هو «الهوية»، هى بالفعل أمهات الكتب فى قضية الهوية المصرية، من كتبوها كانوا يحاولون الإجابة عن السؤال المهم: من هم المصريون؟
ستقطع علىّ الطريق وتقول لى إننا نعرف من نحن جيدًا، ولا نحتاج إلى مثل هذه الكتب لنتعرف على أنفسنا، سأقول لك: أنت مخطئ تمامًا، فعندما تضعها أمامك وتتصفح ما بها، وتقرأها كاملة، مؤكد أنك ستغير رأيك، على الأقل ستعتز بمن أنت فعلًا، وهى نتيجة أعتقد أنها عظيمة جدًا.
فى بداية كل كتاب من الـ١١ كتابًا ستجد أمامك مقدمة كتبها المشرف العام على النشر فى الهيئة، الصديق العزيز جرجس شكرى، يجيب فيها بتمكن عن السؤال الذى حتمًا سيراودك وهو: لماذا هذه الكتب الآن؟
من بين ما قاله: «بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية أو الرجل المريض، ذهب زعماء مصر يسألون الإنجليز عن وضعهم، وقد وصف توفيق الحكيم هذه اللحظة فى مشهد درامى عبر كتابه (مصر بين عهدين)، فسألهم الإنجليز عما يقصدون فقالوا: زوال الاحتلال البريطانى، فسألهم الإنجليز: وماذا بعد الاحتلال، هل تعودون إلى الدولة العثمانية المنهزمة؟ فقال الزعماء: بل نعود إلى مصر، فدهش الإنجليز وسألوا: وما هى مصر؟ إننا لا نعرف شيئًا اسمه القطر المصرى، وكما هو موجود على الخرائط الرسمية يتبع سياسيًا الدولة العثمانية، وحضاريًا العربية حسب اللغة والدين، أما مصر، فأين هى؟ وما هى مقوماتها؟ وما هى شخصيتها؟».
يعلق جرجس شكرى على هذه اللحظة الدرامية بقوله: «نعم كان السؤال مؤلمًا، وكانت الإجابة عسيرة، وتحتاج إلى جهد شاق، وظنى أن هذا السؤال: أما مصر فأين هى؟ كان مشروع الثقافة المصرية لعدة عقود، فراح الجميع يبحث عن شخصية مصر، عن هويتها فى الأدب والمسرح والموسيقى».
يمكننا أن نبحث معًا عن الدافع لإعادة قراءة هذه الكتب من جديد.
بعد أن استعرضتها أمامى، أدركت أننى قرأتها قبل ذلك متفرقة، لكن قراءتها مرة واحدة وبتركيز شديد أعتقد أنه أمر مهم الآن، ربما أكثر من أى وقت مضى.
صحيح وكما يقول جرجس شكرى فى مقدمته التى لا تزال بيننا: منذ الدولة القديمة للحقبة الفرعونية وحتى وقتنا هذا توالت على مصر ثقافات مختلفة ومتباينة، وفى كل حقبة شهدت مصر نظامًا مختلفًا، كان له تأثيره فى هذه الحضارة، فكيف حافظت مصر على هويتها عبر العصور؟
وصحيح أنه حاول أن يقدم إجابة منطقية للسؤال، فقال: لا أظن أن هناك أمة استوعبت هذا الكم الهائل من الثقافات المتباينة من الشرق والغرب مثل مصر، وظلت تحتفظ بهويتها، مهما تعددت الأصول هناك طابع مصرى تشكل فى هذه البيئة المصرية، ولست أعنى بالطابع السمات الجسمانية، بل أعنى موقفًا معينًا فى الحياة، هذا الموقف الذى استطاع أن يهضم كل هذه الثقافات.
يستند جرجس إلى كتف محمد شفيق غربال صاحب كتاب «تكوين مصر» أحد كتب المجموعة، فقد وجد عنده ما يكشف السر، فالموقف الذى يتحدث عنه، هو ما سماه غربال «الملاءمة».
هذا هو الصحيح الكامل، عاش المصريون بملاءمة بين البيئة التى يعيشون فيها والعناصر الثقافية المستوردة.. فتمكنوا من عبور كل وأى شىء.
لكن هناك صحيحًا آخر، وهو أننا أمام مطب تاريخى، يرغب من صنعوه فى أن يختطفوا مصر بالكلية، استطعنا أن نربح الجولة الأولى عندما تخلصنا من تتار العصر الحديث «الإخوان ومن يقفون خلفهم»، لكن لا تزال هناك جولات كثيرة فى المعركة، ولذلك تأتى هذه الكتب فى موعدها تمامًا.
هل تريدون صحيحًا آخر؟
هذه السلسلة تمامًا يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا فى تعزيز ثقة المصريين فى أنفسهم، تجعلهم قادرين على أن يقرأوا أنفسهم كما ينبغى، وساعتها لن يقدر أحد عليهم.
ما الذى نريده منكم هنا؟
نريدكم فقط أن تجعلوا هذه الكتب مقصدكم، ملهمة لأولادكم، أو على الأقل تعرفوا عنها هذا القدر اليسير الذى سنضعه أمامكم هنا.