رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أين تكمن قوة الكنيسة؟


فى حوار تليفزيونى على إحدى القنوات التليفزيونية كان الحوار بين السيد مُقدم البرنامج وأسقف الإسكندرية. وتعرض السيد مُقدم البرنامج إلى العلاقة بين الكنيستين القبطية والإثيوبية. فوجئت بأنه فى وسط الخلاف الحاد بين مصر وإثيوبيا، بسبب «سد النهضة» والمساعى الدولية التى لم يمكنها بعد التوصل إلى نتيجة نهائية لحسم هذا الخلاف، بالإضافة إلى أن المياه قضية حياة أو موت بالنسبة للمصريين، لأننا دولة مصب وليست دولة منبع، بالإضافة إلى الخلاف بين الكنيستين القبطية والإثيوبية الذى بدأ منذ عام ١٩٧١– بعد رحيل البابا كيرلس السادس فى ٩ مارس ١٩٧١– عندما نقض مطارنة وأساقفة الكنيسة القبطية الاتفاقية الموقعة بين الكنيستين فى عام ١٩٥٩، وقاموا بترشيح أنفسهم لمنصب البطريركية، وبعد ذلك بفترة قامت الكنيسة القبطية بتأييد انفصال كنيسة إريتريا عن الكنيسة الإثيوبية- يتهم أسقف الإسكندرية الكنيسة الإثيوبية بالضعف الشديد!
وبدلًا من أن يكون واسطة سلام بين الكنيستين حتى يتمكن بطريرك إثيوبيا من التوسط لدى الحكومة الإثيوبية فى معالجة قضية «سد النهضة»، فقد دفع بذلك بطريرك إثيوبيا إلى عدم التدخل فى القضية نهائيًا! والأسوأ من ذلك أنه قدم تعليلًا غريبًا لسبب ضعف الكنيسة الإثيوبية، فقال إنه فى فترة حكم الإمبراطور هيلاسلاسى الأول، إمبراطور إثيوبيا، وهو «إمبراطور مسيحى أرثوذكسى» كانت الكنيسة الإثيوبية قوية، ولكن بعد عام ١٩٧٤ فى ظل الحكم الشيوعى واغتيال الإمبراطور هيلاسلاسى ضعُفت الكنيسة الإثيوبية! وهنا تعجب المستمعون لهذا الكلام، الذى يعنى أن الله ليس هو مصدر قوة الكنيسة! ما هو دخل أن حاكم البلد «مسيحى أرثوذكسى» أم لا؟ أين الله الذى يهتم بأولاده وشعبه وخليقته، بغض النظر عن الدين أو العقيدة؟! يا إلهى على غياب الحكمة!
وقبل أن أستعرض النصوص الإنجيلية، التى تشير إلى أن الله هو مصدر قوتنا وهو مصدر حمايتنا والذى به نحيا ونتحرك ونوجد، أسجل تلك الواقعة التى حدثت أمامى فى يوم الأحد ١٠ نوفمبر ٢٠١٣ أمام باب الكنيسة المرقسية بالإسكندرية. شاهدت أسقف الإسكندرية داخلًا الكنيسة بصحبة وكيل بطريركية الإسكندرية، وتقدمت منه فتاتان فى المرحلة الثانوية. فقالت له إحداهما: «صل من أجلى لأن عندى امتحان»، فسألها: «فى أى مادة؟»، فأجابت: «مادة الفيزياء»، فقال لها: «مادة الفيزياء سهلة»! ولم يصل لها، كما اعتاد الآباء البطاركة والأساقفة والرهبان والكهنة أن يقدموا صلاة لمن يطلب منهم. وجدت الفتاة الصغيرة وضعت يدها على فمها– كاتمة الضحك– وقالت لزميلتها: «قال لى مادة الفيزياء سهلة، ولم يصلِ لى»! أدركت منذ تلك اللحظة أن الله غير موجود فى فكره ومشاعره. ماذا استفاد من حياته الرهبانية، التى لم تستمر بالدير أكثر من سنة؟ هل درس الكتاب المقدس وتتلمذ عليه؟ هل تتلمذ على كتابات آباء الرهبنة الأولين؟ لقد اعتدنا أن نصلى فى الكنيسة، قائلين: «اشترك يا رب مع عبيدك فى كل عمل صالح»، وما هو هذا العمل الصالح سوى: مساعدة المحتاجين، الصلاة من أجل المرضى والمتألمين والحزانى، الصلاة من أجل الطلاب فى امتحاناتهم. صدقونى كثير من أساتذتى وزملائى من إخوتنا المسلمين الأعزاء طلبوا منى فى العديد من المرات أن أوقد من أجلهم الشموع فى الكنائس وأصلى من أجلهم، وللأمانة أفعل ذلك طالبًا من أجلهم بأن يسدد الرب احتياجاتهم ويبارك أعمالهم ويحفظ لهم أولادهم ويشفى مرضاهم. ليس هذا فحسب، بل إن الأتقياء من أولاد الكنيسة يقدمون الشكر لله الذى أعانهم وكان معهم فى تقديم العمل الصالح، لأى إنسان يمر بضيق أو ألم أو حزن.
أما النصوص الإنجيلية فتقول: كما ورد فى المزمور ١٢٧ لداود النبى: «إن لم يبنِ الرب البيت، فباطلًا يتعب البناءون. إن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلًا يسهر الحراس». يُسمى هذا المزمور مزمور الحكمة. ماذا يفعل البناءون بدون الله؟ وأى نفع للحُراس إن لم يحرس الرب؟ لا فائدة لما يعمله الناس بدون الله، كل عملهم باطل. إن سعادة البار تكمن فى أنه يحيا فى حماية الله. ما أتعس هؤلاء الذين يعتبرون أنهم إذا أكثروا من العمل وسهروا الليالى يستطيعون أن يثبتوا حياتهم ويؤمّنوا مستقبلهم ومستقبل بيتهم. فكل شىء عطية من الرب. المزمور يوجه ذهننا إلى كلمات طالما سمعها شعب الله فى سفر التثنية لموسى النبى: «لا تذهب إلى القول فى قلبك: إن قوتى وقدرة يدى هما أنشأتا لى هذا النجاح، بل تذكر الرب إلهك فإنه هو الذى أعطاك قوة لتكسب هذا الغنى». إن المهارة والعمل الجدى لا يؤمنان وحدهما النجاح للإنسان الذى لا يصل إلى شىء بدون مشاركة الله. والنوم هنا لا يعنى التكاسل، بل تعاقب العمل والراحة والتسليم الكامل لله بكل مشروع نقوم به، وهو وحده يستطيع أن يحققه. وفى الإصحاح ١٧ من سفر أرميا النبى: «هكذا قال الرب: ملعون الرجل الذى يتكل على الإنسان، ويجعل البشر ذراعه، وعن الرب يحيد قلبه». ويقول الحكيم يشوع بن شيراخ فى الإصحاح الثانى: «انظروا إلى الأجيال القديمة وتأملوا هل توكل أحد على الرب فخزى؟». ويقول سليمان الحكيم فى سفر الأمثال الإصحاح الثالث: «توكل على الرب بكل قلبك، وعلى فهمك لا تعتمد». ويعود المرتل داود النبى ويعدد الكثير من أهمية الاعتماد على الرب، فيقول فى المزمور ٣٤: «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، طوبى للرجل المتوكل عليه»، وفى المزمور ٣٢ يقول: «كثيرة هى نكبات الشرير، أما المتوكل على الرب فالرحمة تحيط به».
وقد رتبت الكنيسة القبطية بحكمة شديدة أنه طوال أسبوع الآلام المحيية التى تسبق عيد القيامة يردد الشعب كله فى الصلوات ما ردده إشعياء النبى فى الإصحاح ١٢: «قوتى وتسبحتى هو الرب وصار لى خلاصًا مقدسًا». ومن هنا انطلق بولس الرسول وقال فى رسالته إلى أهل كورنثوس الثانية: «فقال لى الرب تكفيك نعمتى لأن قوتى فى الضعف تكمُل». إن قوة الإنسان الحقيقية وقوة الكنيسة الحقيقية هى فى الله شخصيًا، فهو الذى يحمى الإنسان المتكل عليه وعلى الكنيسة المستندة عليه بقوة وليس على بشر. أما الذى اتكل على حماية البشر فهى حماية زائفة، والتاريخ يثبت لنا كم من مسئولين فقدوا حياتهم فى وسط الحراس! والرب نفسه أعطى للكنيسة وعدًا صادقًا– كما ورد فى إنجيل القديس متى الإصحاح ٢٨: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر». ومن يستمر على عناده ويترك مشورة الله، ويُصر على الاعتماد على قوة العالم، سوف يُسلم مع العالم لذهنه الفاسد، ليفعل ما لا يليق، لأن الرب باسط محبته ورعايته للجميع. وكما ورد فى رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية الإصحاح الأول: «وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله فى معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق»، لأن من يترك الرب ويحتقر قوته الحقيقية والاعتماد عليه وعلى مشورته فى كل شىء ويفرح بالاعتماد على قوة العالم المنظور والتى تخدع الإنسان بسلطانها الوقتى الذى يسمح به الله إلى حين. فليس هناك مفر من الوقوع تحت سلطان الدينونة العتيدة أن تأتى سريعًا على كل العالم وسوف يبيد الرب كل إنسان رفض محبته وأحب الإثم، وسوف يدين الله وبقوة الأشرار. من المؤسف أن نسمع أن قوة الكنيسة الإثيوبية مستمدة من الإمبراطور هيلاسلاسى! لقد كانت حياة البابا كيرلس السادس صلاة حقيقية ودموعًا ونسكًا شديدًا، فانجذب شعبه لمحبة الصلاة. وقد رأى الإثيوبيون حياة الصلاة والخدمة الصادقة فى كل أعمال البابا كيرلس السادس، فانغمسوا هم أنفسهم فى الصلاة الحقيقية، ومن هنا كانت الكنيسة الإثيوبية قوية وليس بسبب الإمبراطور المسيحى الأرثوذكسى!