رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شقاء الطفولة



سأظل أذكر عبارة الكاتب الروسى الكبير دوستويفسكى: «معاشرة الطفولة شفاء للروح»، فليس أجمل من طفل يردك بحديثه، وهو يلثغ، إلى طفولة العقل والقلب البشرى حين لم يكن فى بداياته يميز بين الخيال من الواقع، إلا أن كثرة الانتهاكات اليومية لحياة وكرامة الطفل تدعونا إلى الاعتماد على القانون والاستنجاد به، لأن للطبيعة الإنسانية ألف وجه، بعضها شديد القسوة.
فى أواخر نوفمبر ٢٠١٨، أفاد الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء بأن عدد الأطفال فى مصر يبلغ نحو أربعين مليون نسمة، وهو رقم ضخم يمثل كتلة كبيرة هى فى كل الأحوال وثيقة الصلة بمستقبل الوطن. وإذا نحّينا جانبًا الأطفال سعداء الحظ ممن ولدوا فى عائلات طبيعية، سنجد أن عددًا آخر يتعرض لمختلف أشكال الإيذاء التى تبدأ من التعذيب وتنتهى بالقتل.
وفى أواخر العام الماضى رُوّع الرأى العام بقضية الطفلة «جنة» ذات الخمس سنوات التى توفيت ضحية تعذيب مميت بالحروق والتشويه من قِبل جدتها فى مدينة شربين، ومع ذلك فإن محكمة جنايات المنصورة اكتفت فى فبراير الحالى بالحكم على الجدة بالسجن ست سنوات فقط، مع أن القضية قتل واضح. والمشكلة هنا لا تتعلق بالطفلة المسكينة وحدها بل بالأطفال جميعًا وموقف قانون الطفل رقم ١٢ لسنة ٩٦ المعدل بالقانون رقم ١٢٦ لسنة ٢٠٠٨. ذلك أن القانون، كما أفاد كل الخبراء، لا يتضمن مادة صريحة تُجرّم الإهمال الأسرى الذى يعرّض الأطفال للخطر، ويكتفى فى حالة القرابة بعقوبة هينة كالتى نالتها الجدة قاتلة حفيدتها.
بل إن مواد القانون تشير بالنسبة لمن يتولى رعاية الطفل إلى: «حقه فى التأديب المباح شرعًا»! ما التأديب المباح شرعًا؟ هل هو الضرب بحزام حتى النزف.. أم كَىّ الطفل بالنار.. أم إرغامه على الجلوس على سخان ملتهب كما حدث لأربع بنات صغيرات فى دار أيتام مسماة «جنة الخير» بمدينة نصر؟.
لا يحدد القانون بدقة ما «التأديب المباح شرعًا»، وفى دفاعها عن جريمتها قالت الجدة قاتلة «جنة» إنها كانت تؤدبها! الأكثر من ذلك أن القانون ذاته ينص على أنه فى حالة وفاة الطفل بسبب الإهمال الأسرى يتم تحرير محضر إدارى، ويحفظ مراعاة لمشاعر الوالدين! كما لا توجد مادة صريحة تُجرّم إهمال الأسرة حقوق أطفالها، هذا فى الوقت الذى تتعامل فيه الشرطة مع معظم قضايا العنف الأسرى على أنها قضايا «عائلية» اجتماعية وليست جنائية.
ولذلك تحديدًا انتشرت جرائم الأهل فى حق أطفالهم، ورحنا نقرأ عن سائق توك توك يقتل أبناءه، وعن دكتور فى جامعة الأزهر قتل ابنه، وعن الجريمة المروعة التى أغرق فيها «والد» طفليه فى النهر، والأم التى تخلصت من جثث أطفالها فى المريوطية، وعن العامل الذى قتل ابنته البالغة من العمر ١٣ عامًا بمساعدة زوجته لهروبها من جحيم الزوجة الثانية، إلى آخر تلك السلسلة إن كان لها آخر.
وفى كل تلك الجرائم سترى وجه طفل برىء، كان الأجدر أن يلقى المحبة والحنان وليس الموت على أيدى أهله. وتبرز هنا ضرورة تعديل وتغليظ القانون الذى يخفف العقاب فى حالة جرائم الأهل، ويراوح ما بين قانون العقوبات وفتاوى السلفيين القائلة بأنه لا يجوز القصاص من الأصل إذا قام بقتل الفرع.
وبهذا الصدد، يقول الدكتور أحمد كريمة، الأستاذ بجامعة الأزهر، إن الإمام مالك أفتى بضرورة القصاص من الأب أو الأم، إذا قتل أحدهما ابنه أو ابنته، لأن فى القصاص حياة. ولذلك قدمت النائبة إيناس عبدالحليم فى أواخر عام ٢٠١٨ مشروعًا لتعديل القانون بهدف تغليظ العقوبة على أى من الوالدين اللذين يعرّضان أبناءهما للموت، واقترحت أن تكون العقوبة عشر سنوات على الأقل.
نحن فى أمسّ الحاجة لحماية الطفولة، قانونًا، وإذا كان دوستويفسكى قد قال إن «معاشرة الطفولة شفاء للروح»، فإن علينا أن نحمى أرواحنا، وضحكاتنا، وابتساماتنا، وأن ندافع بالقانون عن طفولتنا.