رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد النشرتى.. عُرف بالصلاح وحُسن السيرة



وُلِدَ محمد النشرتى ببلدة «نشرت» بمحافظة كفرالشيخ، وسمِّى بالنشرتى نسبةً إلى بلدته التى وُلِد فيها، وهى تابعة لمركز «قلين»، التى كانت تسمى مديرية «الفؤادية»، وغير معروف تاريخ ميلاده.
انتقل النشرتى من بلدته إلى القاهرة فى صباه ليلتحق بالأزهر، وتفوق فى دراسته، ليتصدى فيما بعد للتدريس وتصدر حلقات الدرس، حتى اختير شيخًا للأزهر سنة ١٦٩٥م، بعد وفاة الشيخ البرماوى.
حفظ القُرآن الكريم ودرس بالأزهر، ولمَّا تولى مشيخة الأزهر ظلَّ يُواصل الدرس، وشغله منصبه وطلابه عن التأليف.
والإمام النشرتى هو ثالث شيوخ الأزهر العلماء الأفاضل، ومن أعلام المذهب المالكى، لم توجد له ترجمة دقيقة فى المراجع التاريخيَّة إلا سطور متفرقة ومتناثرة فى بعض أجزاءٍ من كتب «الجبرتى»، وعدَّة سطور أوردَتها اللجنة التى أصدرت كتاب «الأزهر فى اثنى عشر عامًا»، وذكَر الجبرتى أن تلاميذ الإمام الشيخ النشرتى الإمام العالم العلامة صاحب المؤلفات الكثيرة والتقريرات المفيدة «أبوالعباس أحمد بن عمر الديربى الشافعى الأزهرى» والإمام الشيخ الصالح عبدالحى بن الحسن بن زين العابدين، والإمام الفقيه المحدث الأصولى المتكلم شيخ الإسلام وعمدة الأنام الشيخ أحمد بن الحسن بن عبدالكريم الشافعى «الشهير بالجوهرى». ويقول الدكتور عبدالعزيز غنيم: ومع ما كان عليه الإمام الشيخ النشرتى من العلم، وما كان له من الفضل والمريدين والتلاميذ الذين طبقت شهرتهم الآفاق، فى الفقه المالكى بخاصة، وفى العلوم الدينيَّة والدنيويَّة على سبيل العموم، فإن المصادر التى بحثت فى حياة الرجل وأعماله تؤكِّد أنه خلف رجالًا من العلماء كثيرين انتهت إليهم الصدارة فى عُلوم عُصورهم المختلفة والمتعدِّدة المجالات والتخصُّصات، وإنَّ القصد من هذا نريد تعريف القارئ الكريم بأنَّ العلماء الذين لم يتركوا وراءهم مؤلفات ضخمة ومصنفات فريدة لم يكونوا أقل حظًا من الذين خلفوا وراءهم رجالًا، خلدوا آراءهم وأفكارهم وأبقوا على مرِّ الزمن أخبارهم وآثارهم.
كان الإمام النشرتى ذا قدرة فائقة على توضيح وإعراب ما فى نفسه، والإبانة عما يجولُ بخاطِره وفكره، وهذه نعمةٌ لا يخصُّ الله بها غير القلَّة من الناس، ومن أجل ذلك كثُر تلاميذه، واشتدَّ الإقبال على دروسه، لا من مصر وحدَها بل من شتى ديار الإسلام كافة. ولهذا ترك من خلفه رجالًا يحبهم ويحبونه، من أجلهم ترك التأليف والتصنيف ثقةً منه فى أن أصحابه سيملأون طباقَ الأرض من علمه وأدبه ومعارفه، وفعلًا فعلوا، وكانوا عند حسن ظنِّه فيهم علمًا وخُلُقًا وأسلوبًا وسلوكًا.
وطلبة الإمام محمد النشرتى دائمًا يلتفُّون حوله ومتأثِّرون به إلى درجة كبيرة، ظهر ذلك بعد وفاته فى تماسكهم واتحادهم ومحاولة فرض آرائهم على ولاة الأمر، حتى فى اختيارهم لشيخ الأزهر بعد رحيل شيخهم؛ فوقع اختيارهم على تلميذه الإمام الشيخ «القلينى»، وأصرت طائفةٌ أخرى على أنْ يتولى المشيخة الشيخ «النفراوى»، واستطاعت الطائفة الأولى أنْ تتغلب وتفرض إرادتها فرضًا بعد أحداث جسام، ذكر ذلك الجبرتى وذكره «كنز الجواهر»، ورأى المؤرِّخون أنه من الخير الإشارة إلى هذه الأحداث؛ أداءً لحقِّ التاريخ، وإبرازًا لدور الأزهر فى التوجيه العام.
تزعم النشرتى علماء المالكية فى عصره، ولم يتوقف عن التدريس حتى بعد أن تولى مشيخة الأزهر وانشغل بأعباء المشيخة، التى ظل فيها أربعة عشر عامًا لم يتوقف خلالها عن التدريس.
المعروف أن الشيخ الإمام النشرتى كان يلقى دروسه وهو شيخٌ للأزهر بالمدرسة «الأقبغاوية»، وهى مكان مكتبة الأزهر الآن، فلمّا لقى ربَّه طمع فى المشيخة والتدريس بالمدرسة الأقبغاوية الشيخ الإمام أحمد النفراوى، ولكن تلاميذ النشرتى وقفوا ضده، وضد تمكينه من التعيين، واتفقوا فيما بينهم على أنْ يشغل المنصبين معًا زميلُهم الشيخ عبدالباقى القلينى، وهو من التلاميذ النجَباء للإمام النشرتى، وهو من المتمكِّنين فى فقه المالكية، ومن الصدف أن القلينى لم يكن بمصرَ وقتها، فتعصّبت له جماعة النشرتى، وأرسَلُوا يستعجلون حضوره، ولكن الشيخ النفراوى لم ينتظر، بل تقدَّم لإلقاء دروسه بـ«الأقبغاوية»، فمنعه القاطنون بها وحضر القلينى؛ فانضم إليه زملاؤه وأنصاره، واتضح بعد التحقيق أن الحق فى جانب الشيخ القلينى، فولى المشيخة والدرس، وأمر النفراوى بلزوم بيته، ونفى الشيخ «شنن» أيضًا.
لكن لماذا لم يترجم الجبرتى يومياته ترجمةً كافية، كما فعَل مع الكثيرين من شيوخه وتلاميذه، واكتفى بكلمات مبعثرة فى أنحاء كتابه؟! ولماذا لم يجبر هذا النقص واحدٌ أو أكثر من تلاميذه؟ والمتتبع لسيرة الإمام النشرتى يفهم ويدرك أن الرجل كان ممَّن لا يطلبون الشهرة، وينبغى أنْ يكون عمله خالصًا لله وحدَه، وأن تلاميذه كانوا يعرفون ذلك، فلم يترجموا له، وأيضًا كانوا يرَوْنَ أن كلًا منهم هو صورةٌ من الشيخ النشرتى تمشى على الأرض، فلماذا الترجمة إذن؟.
اكتفى النشرتى بتدريس الكتب المعروفة فى عصره، خاصة التى كانت فى المذهب المالكى، ولم تكن له مؤلفات خاصة به.
توفى الشيخ النشرتى بعد ظهر يوم الأحد ٢٨ ذو الحجة ١١٢٠ هـ «١٧٠٩م»، وأخرت جنازته إلى صبيحة يوم الإثنين، وصُلى عليه بالأزهر، وحضر جنازته الصناجقة والأمراء والأعيان والعامة، وكان يومًا مشهودًا ومشهدًا حافلًا، وهذا يدل على منزلته العظيمة، فقد عرف الشيخ النشرتى بالصلاح وحسن السيرة ومكانته السامية إلى جانب شهرته العلمية.