رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإلحاد والعلمانية والحجاب



هل تذكرون ما كان يروج له مناهضو الليبرالية والادعاء بأنها تعنى وبالضرورة أن تنزل أمك للشارع دون حجاب!. وما ألصق أيضًا بأحمد لطفى السيد وأنه- والعياذ بالله- رجل ديمقراطى! وأن الديمقراطية تعنى نصًا «مراتك تبقى مراتى». فهكذا روج أعداء أحمد لطفى السيد فى الماضى، وهم أعداء التقدمية والديمقراطية والفكر الطليعى لإسقاطه وتشويهه، والآن يروج البعض وللأسف لوجود متلازمة بين العلمانية والإلحاد «وأن العلمانية تعنى الإلحاد بالضرورة»، وأن كل علمانى هو ملحد بالضرورة.
بل ويروج البعض الآخر إلى أن العلمانية تعنى أن يكون سلوك الإنسان منفلتًا أو غير متزن، ولا يراعى السياق الاجتماعى. فالعلمانى الحق عند هؤلاء الراديكاليين هو من يخلع ثيابه أو يرتدى أزياء السهرة فى الصباح ويذهب للأوبرا بزى يليق بالديسكوهات وتذهب الفتاة العلمانية لعملها وللمصالح الحكومية بالهوت شورت، ولا يرى أو يعى فكرة الـdress code وهذا نوع من التخبط وعدم النضج ولا علاقة له بالعلمانية من قريب أو بعيد.
لا تدعو العلمانية للحجاب هذا صحيح.. لكنها لا تناهضه بالضرورة بدافع الجور والاعتداء على الحرية الشخصية لمن ترتديه وليس تحقيرًا لها أو انتقاصًا من شأنها.. العلمانية لن تمنع أحدًا من ارتداء ما يحلو له ويريحه.. فقط تخشى العلمانية من التصنيف والمجاهرة والتباهى بدين دون غيره، فيكون لهذا الدين وأتباعه الغلبة والأفضلية.. لذلك يسعد العلمانى بمن تخلع الحجاب بوصفه شعارًا سياسيًا يرمز لدين بعينه وجماعة بعينها ويميز صاحبه تمييزًا غير إيجابى يضر بفكرة المواطنة، لكنه لا يدعو لمنع الحجاب أو تجريمه عنوة.. والشىء الأكيد هو أن الناس خلقوا وسيظلون أحرارًا فى انحيازاتهم واختياراتهم وما يلبسون وما يفعلون.
العلمانية لا تجرم سوى ما يجرمه القانون، ولا أقصد بطبيعة الحال ترسانة القوانين سيئة السمعة التى صارت سوطًا مسلطًا على رقاب الباحثين والمبدعين، بدءًا بقانون خدش الحياء العام، وانتهاء بما يصطلح على تسميته قانون ازدراء الأديان أو إباحة البرلمان ظاهرة التخفى وإعطاء المرأة وحدها- دون الرجل- رفاهية التخفى باسم الدين تحت ما اصطلح على تسميته إعلاميًا ومجتمعيًا «النقاب». فالعلمانية تناهض كل ذلك العوار ومحاولات التبرير له والتواطؤ معه أو استمراء عدم مناهضته، وبالتالى لا يمكن حصر العلمانية فى الحقوق والحريات الشخصية فقط، ومن ثم تسطيح الفكرة وابتذالها واختزالها فى ممارسات بعينها يمارسها هذا أو تهواها تلك بتوجهات فردية وشخصية جدًا، فيلصق الأمر كله بجل العلمانيين فى نهاية الأمر، وتصبح تلك الممارسات الشكلانية جوهر العلمانية. فالربط بين العلمانية والادعاء بوجود ارتباط شرطى ما بينها وبين بعض الممارسات التى لا تخلو فى الكثير من الأحيان من فجاجة أو مراهقة متأخرة، أمر أضر بالعلمانية ضررًا بالغًا.. وكأن هذا وذاك وتلك يريدون تكسير فكرة العلمانية من الداخل بل ويبررون هجوم التيار الدينى عليها فى المجمل، اتكاء على تلك الممارسات وتذرعًا بأشخاص وأسماء بعينها، رغم أن تلك الأسماء لا تمثل إلا نفسها، وهى فى الأغلب أسماء ونماذج تثير الشفقة والغثيان فى نفس الوقت، فتخاف الأسر على أبنائها وبناتها من شرور العلمانية، التى شوهت وأصبحت لصيقة الصلة بالانفلات والانحلال والممارسات العشوائية والفكر المراهق الذى لا يراعى السياق الاجتماعى، سواء فى أداء هؤلاء أو ملبسهم، وحتى الإلحاد.. قد جعله معتنقوه مرادفًا وبالضرورة- كما سبق وأوضحت- للعلمانية والعكس، وصار الملحدون الدعويون يروجون لدين الإلحاد تحت مظلة العلمانية الرحبة، وعندما لا يجدون قبولًا من بعض العلمانيين يهاجمونهم ويطالبونهم بإعلان إلحادهم عنوة! حتى وإن كان الإلحاد ليس اختيارًا حقيقيًا لهؤلاء العلمانيين، فالعلمانية بالنسبة للملحد الدعوى خطوة أولى على طريق الإلحاد.. وإن العلمانى عليه أن يتطور ويلحد!.
بل وكأن العلمانية هى القصة القصيرة أو الفيلم القصير الذى يجرب فيه المبدع نفسه قبل أن يكتب روايته أو ينسج فيلمه الطويل، أو كأن العلمانية فترة خطوبة عليها أن تنتهى وتتطور للزفاف ودخلة الإلحاد المرتقبة المنشودة. فالملحدون الدعويون لا يرون العلمانية إلحادًا بالضرورة فحسب، بل يرونها فكرًا منقوصًا عليه أن يكتمل ويتوج بالإلحاد!
كل ذلك التخبط بل والخبل وحالة التشظى التى لمسها واستشعرها كثيرون، خصوصًا بعد الثورة المصرية التى ساعدت فى ظهور الكثير من القيح على السطح، أعطت للبعض أهمية ولم تكن تسمع لهم ركزًا، والسبب أن ثورة الإنترنت والسماوات المفتوحة أكبر معول هدم لنظرية العلمانية، وأنها «نظرية فى المعرفة» وهو اصطلاح أطلقه الدكتور مراد وهبة، وفصل فيه العلمانية كنظرية معرفية وكفكر حتى عن السياسة.. فالعلمانية أكبر وأكثر رحابة من أى توجه سياسى، وصار على العلمانيين اليوم عبء مضاعف لمناهضة أفكار وأداء بعض أتباعهم غير المنضبطة وغير الرشيدة، وجعلها شيئًا لصيقًا بأصحابها لا بالعلمانية فى المطلق.. فمن فقد رشده أو بوصلته ليس من حقه إضاعة بوصلة العلمانية، وما تبقى لبقية العلمانيين من رشد علينا تركه للجيل الذى سيلحق بنا، وكأن حربنا الشرسة الأكيدة، حربنا الوجودية تلك مع التيار الدينى لم تكن وحدها كافية! وكأننا كنا فى حاجة أو لدينا رفاهية فى الوقت والجهد والطاقات لنهدرها فى تلك المعارك الركيكة الرخيصة الساذجة التى نُجر إليها ويشهّر فيها عادة بهذا أو تلك، وتصبح سيرة العلمانيين دومًا مصحوبة بفضيحة هنا أو تلاسن هناك.. اللهم عليك بأصدقائنا، لأن أعداءنا قد عروا أنفسهم بالفعل فصاروا أقل وطأة وتخريبًا من هؤلاء الأصدقاء، ونحن كفيلون بهم.