رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سد النهضة.. إسرائيل تكمن فى التفاصيل


فى أول سبتمبر من العام الماضى، اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، برئيس وزراء إثيوبيا أبى أحمد، فى القدس، فى زيارة تُعد الأولى من نوعها رسميًا، لبحث التعاون المشترك بينهما، فى مجالات التكنولوجيا والأمن والمياه وغيرها.. وصفها أبى أحمد بأنها «أمر تاريخى، فمنذ الملكة سبأ، لم يقم رئيس وزراء من إثيوبيا بزيارة إسرائيل، لذلك سنتعاون ونتغلب معًا على التحديات.. هنا، على هذه الأرض، دولة لها تاريخ طويل ومهم، وتشترك مع بلادى فى أمور كثيرة».
ثم تحدث أبى أحمد بالعبرية مضيفًا: «نحن إخوة.. وقد زرت إسرائيل فى ٢٠١٦، وكنت أول رئيس وزراء إثيوبى يزور إسرائيل»!.. ساعتها رد عليه نتنياهو: «صديقى آبى.. أنا سعيد للقائك، لقد أجرينا محادثات كثيرة عبر الهاتف، وحان الوقت للحديث عن أمور كثيرة.. أود أن أشجع المستثمرين الإسرائيليين على الاستثمار فى إثيوبيا، لأننى أعتقد أن هذا مهم، وأعتقد أنه يمكننا تحقيق أمور عظيمة، ليس كل بلد على حدة، بل نستطيع معًا تحقيق المزيد.. علاقتنا مميزة بفضل ١٥٠ ألف إثيوبى يعيشون فى إسرائيل».
فى هذه اللحظة كان نتنياهو يؤكد اتخاذ إسرائيل دولة إثيوبيا معبرًا إلى بقية الدول الإفريقية، خاصة دول شرق القارة والبحر الأحمر، بما فيها دول حوض النيل الشرقى، وفى سبيلها إلى ذلك عملت تل أبيب على تنسيق الاستراتيجيات الثنائية مع أديس أبابا، لتسهيل التعامل مع أى صراع قد يحدث بين دول المنبع والمصب حول مياه النيل.. ساعد إسرائيل فى ذلك قلة الخبرة الفنية لدى إثيوبيا، وضعف إمكاناتها الاقتصادية وحاجتها للمساعدات الاقتصادية التى تمنحها لها إسرائيل منذ تسعينيات القرن الماضى فى نواحٍ عدة، زراعية وصحية وتنموية وفنية وعسكرية، منها ما اضطرت لنفيه السفارة الإسرائيلية فى القاهرة بشأن الأخبار التى تم تداولها، حول وجود أنظمة دفاعية إسرائيلية لحماية سد النهضة.. النفى الذى جاء على لسان ماتى أنبار، المسئول فى الصناعات العسكرية الإسرائيلية، قائلًا: «لا توجد دفاعات جوية من صنع إسرائيل حول سد النهضة فى إثيوبيا.. وعدم وجود بطاريات الصواريخ حول السد، لا ينفى وجود تعاون فى المجالين الأمنى والعسكرى بين الدولتين».
لقد أقامت إسرائيل علاقاتها الخارجية على أساس استغلال التناقضات الدولية من أجل تحقيق مصالحها مع الدول التى تعتبرها مُعادية، خصوصًا إذا كانت تلك الدول عربية.. مما يعنى أنها ستناصر أى طرف غير عربى على نقيضه العربى.. ولعل أبرز انعكاسات هذه الاستراتيجية العلاقات الوثيقة بين تل أبيب وأديس أبابا، والزيارات المتبادلة بين الطرفين فى مدى زمنى يعتبر قصيرًا نسبيًا.. توافق ذلك مع تولى أبى أحمد رئاسة الوزراء فى بلاده.. ساعتها ظن الكثيرون فى المنطقتين العربية والإسلامية حدوث تغيير جوهرى فى السياسة الخارجية الإثيوبية، خاصة ما يتعلق بالتعاون مع الكيان الإسرائيلى، لكن السياسة لا تعرف إلا لغة المصالح والمنافع المتبادلة.. من هذا المنطلق دفعت مجموعة من الظروف التى تمر بها إثيوبيا فى الداخل إلى تحرك أبى أحمد بحثًا عن شركاء من خارج منطقة القرن الإفريقى، بل من خارج القارة الإفريقية كلها، لاستكمال المشروعات المعطلة وتحقيق الإنجازات الاقتصادية التى يطمح لتحقيقها.. وهذا ما يقودنا إلى سد النهضة.
هنا.. لا بد من التأكيد أولًا أن من القواعد القانونية الدولية التى تحكم استخدام الأنهار: ألا يؤدى استخدام إحدى الدول للنهر إلى الإضرار بمصالح الدول الأخرى المشتركة فى هذا النهر، لأن الاتجاه السائد فى القانون الدولى الآن هو مبدأ الاشتراك المنصف، والتوزيع العادل لمياه شبكة الأنهار الدولية فى غير شئون الملاحة.. ويُقر القانون حق الدول التى يمر بها جزء من الأنهار الدولية فى استخدام النهر، بشرط ألا يضر هذا الاستخدام الدول الأخرى الشريكة فى النهر، مع تطبيق مبدأ المساواة فى الحقوق، والحرص على عدم إجراء أى تغييرات فى نظام النهر بدون الاتفاق مع باقى دوله، وعند الاختلاف بين بلدان النهر الواحد يعرض النزاع للتحكيم الدولى.. وقد قررت اتفاقية الأمم المتحدة عام ١٩٧٧ أنه «على الدولة المُقدمة على عمل إنشاءات معينة على النهر أن تُبلغ الدولة أو الدول الأخرى، قبل الإقدام على أعمال الإنشاءات بستة أشهر على الأقل».. وألقت الاتفاقية التزامات على عاتق الدولة التى تريد إقامة مشروع ما على النهر الذى يمر فى أراضيها أثناء هذه المدة، وأهمها «التعاون وعدم البدء فى تنفيذ التدابير المزمع اتخاذها، حتى يتم الاتفاق بين الأطراف ذات الصلة».. ومع ذلك، جاء بناء سد النهضة أحادى القرار من جانب إثيوبيا التى تستمر فى عنادها بشأن إجراءات ملئه، وكأنها تبرهن على صدق الشكوك المصرية السابقة، منذ عام ٢٠١٦، فى نوايا إثيوبيا التى سارعت فى بنائه دون سبب واضح إلا الإضرار بمصر، ربما كواحدة من نتائج زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى لأديس أبابا، خاصة أن الزيارة ركزت على دول المنابع، مثل هضبة الحبشة أو البحيرات العظمى، وكذلك رواندا وإثيوبيا وأوغندا، وكما يقولون إن إسرائيل تمتلك مفاتيح إثيوبيا فيما يتعلق بأنشطة السدود وتوزيع الكهرباء، وتحديث نظام الرى.. أو كما حذر وزير الرى الأوغندى من إضرار إثيوبيا بمصالح مصر، بالرغم من مساندتها الدول الإفريقية فى قضاياها والدفاع عنها. ما سبق ربما يلقى الضوء على أسباب فشل الاجتماعات الوزارية الأربعة، بين مصر والسودان وإثيوبيا، والتى لم تُفض إلى تحقيق تقدم ملموس بشأن الاتفاق على إجراءات ملء سد النهضة، لتعنت إثيوبيا وتبنيها مواقف مغالى فيها، تكشف عن نيتها فرض الأمر الواقع، وبسط سيطرتها على النيل الأزرق وملء وتشغيل سد النهضة دون أدنى مراعاة للمصالح المائية لدول المصب، وبالأخص مصر بوصفها دولة المصب الأخيرة، بما يخالف التزامات إثيوبيا القانونية وفق المعاهدات والأعراف الدولية.. وهو ما دفع الخارجية المصرية إلى إصدار بيانها الأخير الذى كشف عن نفاد صبر القاهرة فى مواجهة التعنت الإثيوبى، بل الأكاذيب المتعمدة التى جاء عليها بيان الخارجية الإثيوبية بشأن الاجتماع الأخير، وما سبقه من مفاوضات انخرطت فيها مصر «بحسن نية وبروح إيجابية، تعكس رغبتها الصادقة فى التوصل لاتفاق عادل ومتوازن، يحقق المصالح المشتركة لمصر وإثيوبيا.. وقد انعكس هذا فى الأفكار والنماذج الفنية التى قدمتها مصر خلال الاجتماعات، التى اتسمت بالمرونة والانفتاح». قبل أيام استنكرت مصر ما ورد فى بيان الخارجية الإثيوبية من «مزاعم بأن مصر تسعى للاستئثار بمياه النيل، موضحة أن مثل هذه التصريحات والشعارات الجوفاء، والتى ربما تصدر للاستهلاك المحلى، لا تساعد على خلق البيئة المواتية لتحقيق تقدم فى المفاوضات».. وأكدت مشاركتها فى اجتماع وزير الخزانة الأمريكى بوزراء الخارجية والمياه لمصر والسودان وإثيوبيا فى واشنطن «من منطلق التزامها بالعمل الأمين من أجل التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن، وفى إطار سعيها للحفاظ على مصالح الشعب المصرى التى لا تقبل التهاون فيها».
إن مصر التى تتعامل- كما قال الرئيس عبدالفتاح السيسى- «بشرف، فى زمن مفيش فيه شرف»، وتحترم القانون الدولى لآخر لحظة، إذا ما دعا الداعى فى مياه السد حياة المصريين، التى هى أغلى ما فى الوجود، عند الدولة وقيادتها، ستكون لها كلمة أخرى.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.
كُتب هذا المقال قبل انتهاء اجتماعات واشنطن بشأن سد النهضة بين وزراء الخارجية والمياه فى مصر وإثيوبيا والسودان.