رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يغطون رأس المرأة ثم يذهبون للاحتفال برأس السنة


أنا فى غاية الجدية حينما أقول ألّا أمل فى قضية تجديد وإصلاح الخطاب الدينى، وهذا ليس شيئًا أوده، فأن أبدأ السنة الجديدة بفقدان الأمل فى قضية ملحة أساسية مصيرية يعكر صفو الزمن القادم.
لا أعتقد أن الرئيس السيسى حينما بدأ مطالبته بتجديد وإصلاح الخطاب الدينى عام ٢٠١٤ ساوره أى شك أن الأمر بهذه الصعوبة والتعقيد، ولا يزال حتى الآن يذكرنا بها ويطالب جميع مؤسسات الدولة بإنجاز التقدم.
قرأت منذ يومين فى إحدى الجرائد الصباحية الرئيسية، فى الصفحة الأولى، أن تجديد الخطاب الدينى هو لب الثورة الثقافية المطلوبة، ودونه لا يمكن الحلم بإحداث ثورة ثقافية توازى الثورة السياسية فى يناير ٢٠١١، ويونيو ٢٠١٣.
وسبب يأسى من القضية أننى سمعت وشاهدت فى إحدى القنوات الإعلامية، بمناسبة العام الجديد، أحد شيوخ الدين وفقهاء الإسلام يقول إنه يحلم بأن تنهى البشرية الإلحاد الذى هو الخطر الأكبر على الإنسانية، وهو العدو المشترك على جميع الأديان على سطح كوكب الأرض، وأن تتعاون الدول على مكافحته، فالإلحاد يعمى البصر والبصيرة ويحطم الإنسان نفسيًا، وأن يشهد العام الجديد زيادة دور العبادة لأنها فى أهمية بناء البشر.
هكذا فقدت الأمل فى أى تجديد أو إصلاح للخطاب الدينى، فإذا كان هذا هو رأى أحد شيوخ الدين وأحد فقهاء الإسلام المنتشر إعلاميًا وفضائيًا الذى يؤثر على الناس ويدخل عقولهم قبل أن يدخل بيوتهم، فما بال الجمهور العادى؟
وليسمح لى هذا الشيخ الفقيه، كمواطنة تحمل الجنسية المصرية، أن ترد على هذه الأقاويل بشكل سلمى منطقى متعقل ولها حق.
أولًا: الإلحاد ليس هو العدو المشترك للأديان، وليس هو الخطر الداهم الذى يجب التكاتف لمحاربته، وليس سقوطًا للإنسان وتحطيمه نفسه، هنا سأرد بعدة نقاط.
العدو المشترك للأديان هو التجارة باسم الأديان، لتحقيق أهداف سياسية مرتبطة بالسيطرة والهيمنة والحكم، وتضليل الناس تحت التأسلم الشكلى المظهرى الذى تضاعف وتضخم، العدو المشترك للأديان هو تقسيم الناس والتفرقة بينهم على أساس الدين الموروث، العدو المشترك للأديان هو استحواذ الذكور على السلطة فى البيت الذكورى، ومطالبة الزوجات بالطاعة العمياء المطلقة لأزواجهن باعتبارها فضيلة فرضتها الأديان، العدو المشترك للأديان هو نشر الأزياء الدينية واللغة الدينية والإعلام الدينى والترويج الممول لإضعاف الدولة المدنية لصالح إقامة الدولة الدينية، العدو المشترك للأديان هو إضفاء القداسة على رجال الدين وعلماء الدين وفقهاء الدين، واتهام كل منْ يرفض قداستهم ويناقش تصوراتهم وتفسيراتهم وفتاواهم بالكفر، وازدراء الأديان والعمالة وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتطبيق قانون الحِسبة عليهم، ورفع بلاغات التكفير وسحب الجنسية، العدو المشترك للأديان ليس هو الإلحاد ولكن الأنظمة العنصرية المتحالفة مع التنظيمات الإسلامية على إفقار الفقراء وإثراء الأثرياء، وإذا عقدنا مقارنة أعتقد أن موقف الإلحاد الذى «ينكر» الأديان أفضل من الموقف الذى «يستخدم» الأديان للمزايدة والتضليل والتفرقة.
ثانيًا: منْ قال إن الإلحاد هو خطر داهم علينا جميعًا مكافحته؟، وردى هو أن أغلب الاكتشافات العلمية والطبية، وأغلب الاختراعات فى جميع المجالات التى نفعت ونورت وأفادت البشرية، وساعدت على تقدمها ونهضتها، وقاومت عوامل قصورها وحدودها، وكذلك الإنتاج الثقافى والفنى والأدبى والفكرى والموسيقى وغيرها، الذى قدم المتعة والبهجة للناس على كوكب الأرض وعبر الأزمنة، جاء على أيدى نساء ورجال ينكرون الأديان والفكر الدينى للوجود والحياة، أو ملحدين أو غير متدينين إلا بالشكل فقط، وكانت آلهتهم المعبودة هى العلم والحقيقة والعمل المتقن والضمير، وعدم انتهاك خصوصيات الآخرين، والدعوة إلى العدل والحرية بشكل يطابق أقوالهم مع سلوكياتهم، بل أسهموا فى إنتاج الكتب والروايات والأشعار والأفلام والمسرحيات التى تنتقد الكهنوت ورجال الدين الوسطاء، وخطورة إخضاع العقل البشرى لأفكارهم.
ثم إننا عاصرنا كل أنواع الإرهاب الدينى، والتصفية الجسدية، والتعصبات الطائفية، والتحريض على الفتن والتمييز، وإثارة نعرات التقسيم، والتفجيرات الدامية فى المبانى والسيارات والأماكن السياحية ودور العبادة وأماكن التجمعات المزدحمة، وكلها، قديمًا وحديثًا، لم تحدث إلا من قبل تنظيمات دينية إرهابية مسلحة لها كتائبها وجيوشها وميليشياتها ودولتها الصغيرة، من أجل نصرة الدين ورفع راية الإسلام، وتطهير الأرض من فساد غير المتدينين، وأسر الرجال وسبى النساء لنكاح الحرب والسلم، من أجل إعلان الكيانات الدينية السلفية.
هل سمعنا عن تنظيم إرهابى مسلح «ملحد»، يخطف ويقتل ويفجر وينكح ويهدد ويرعب ويذبح تحت اسم «رفع راية الإلحاد»، أو تحت اسم «جبهة الملاحدة» أو «الدولة الملحدة فى الشرق الأوسط»، أو «التنظيم الدولى للإخوان الكافرين» أو «كتائب تطهير الأرض من رجال الدين»؟.
كل أنصار الإلحاد اللا دينيين غير المؤمنين لم يتدخلوا فى العقائد والأديان، اكتفوا بموقف ناقد يستخدم الفكر والقلم والخيال الفنى والبحث العلمى، لم يُضبط أحد منهم وقد تلوثت يداه بدم مؤمن متدين، لم يتورط أحدهم باستخدام العنف اللفظى أو العنف الجسدى ضد المتدينين المؤمنين بشكل فردى أو بشكل جماعى، لم يحدث للبشرية أى ضرر ممنْ رفعوا راية الإلحاد.
ولكن كما تقول صفحات التاريخ: كل الأضرار السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية والعقلية والحضارية والدموية، كانت ممنْ «حشروا» الدين والعقائد فى حياتنا العامة والخاصة، ورفضوا التجديد والتقدم باسم الحفاظ على الثوابت الدينية، وإذا كان الإلحاد كما تقول هو تحطيم للنفس وسقوط أعمى، فلماذا إذن برع أصحابه فى كل المجالات، أفرادًا وشعوبًا؟
ولنأخذ الصين مثلًا، التى من دواعى زهوها المعلن فى كل وقت «أنهم شعب بلا أديان»، لا أعتقد أن أحدًا يمكنه اتهام الصين بأنها سقطت فى الإلحاد الأعمى، وأن شعبها محطم نفسيًا، نحن نعانى من «الإسلاموفوبيا»، وليس من «الإلحادوفوبيا».
ثم يا حضرة الشيخ لماذا الاهتمام الأقصى ببناء دور العبادة واعتبارها فى مثل أهمية بناء الإنسان المادى؟ هل الفساد والتعاسة والقهر والظلم الذى يحاصر كوكب الأرض بسبب قلة الجوامع؟ هل يكتئب ويبتئس وينتحر الشباب فى ريعانهم فى مقتبل العمر لأنهم حين يرغبون فى الصلاة لا يجدون دور عبادة تكفيهم؟ هل المسلمات والمسلمون فى ذيل قائمة الدول المتقدمة إنسانيًا وحضاريًا لأنهم لا يصلون بالقدر الكافى؟ هل تئن الدول الإسلامية بسبب قلة المساجد والجوامع، أم بسبب قلة العدالة وقلة الحرية؟
إنها لمفارقة، شئنا أم أبينا، أن الإلحاد أو اللا دينية هى التى تنفذ واقعًا وفعلًا الجملة التى نتشدق بها ولا نفعلها: «الدين لله والوطن للجميع».
الخطر يا سيدنا أننا بلاد «تغطى رأس المرأة» ثم تذهب للاحتفال بـ«رأس السنة».