رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ عبدالمجيد سليم.. «ابن سيناء»



وُلد عبدالمجيد سليم فى ١٣ أكتوبر ١٨٨٢، فى قرية «ميت شهالة»، وهى قرية تابعة لمدينة الشهداء بمحافظة المنوفية فى مصر. حفظ القرآن وجوّده، ثم التحق بالأزهر، وكان متوقد الذكاء، شغوفًا بفنون العلم، متطلعًا إلى استيعاب جميع المعارف.
كان يختار أعلام الأساتذة والمشايخ ليتتلمذ على أيديهم، فحضر دروس الشيخ الإمام محمد عبده فى الرواق العباسى، أشهر أروقة الأزهر لمدة خمس سنوات تلقى فيها «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» لعبدالقاهر الجرجانى، ودروس فى تفسير القرآن الكريم والمنطق. كما حضر دروس الشيخ حسن الطويل وعرف منه أساليب عديدة فى فنون الجدل والقياس لم تكن مألوفة لأنداده وتنبأ له بمشيخة الأزهر، والشيخ أحمد أبى خطوة وغيرهم من كبار الأئمة والمحدثين، ونال شهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة ١٩٠٨، وشغل وظائف التدريس والقضاء ونبغ فى علم الفلسفة حتى إنه اشتهر بين زملائه باسم «ابن سينا».
فى ٢٢ مايو ١٩٢٨ عُين فضيلته مفتيًا للديار المصرية، وظل يباشر شئون الإفتاء قرابة عشرين سنة، ومن خلال هذه الفترة الطويلة فى الإفتاء ترك فضيلته لنا ثروة ضخمة من فتاواه الفقهية بلغت أكثر من خمسة عشر ألف فتوى.
فى سنة ١٩٤٦ حاولت الحكومة المصرية على عهد الملك فاروق أن تتدخل فى شئون الأزهر بفرض تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق دون الرجوع لعلماء الأزهر، غير أن الشيخ عبدالمجيد سليم وقف معارضًا بشدة، على الرغم من التهديدات التى تلقاها من رئيس الديوان الملكى- وقتذاك- حيث أنذره بغضب الملك عليه، فكان رد الشيخ عليه بقوله: «هل تستطيعون الحيلولة بينى وبين المسجد؟»، فقال رئيس الديوان: لا. فأجابه الشيخ بقوله: «إننى ما دمت أتردد بين بيتى والمسجد فلا خطر علىّ»، وقدم على الفور استقالته من منصب الإفتاء.
تولى مشيخة الأزهر أول مرة فى ٨ أكتوبر ١٩٥٠، ثم أعفى من منصبه فى ٤ سبتمبر سنة ١٩٥١ لاعتراضه على الحكومة عندما خفضت من ميزانية الأزهر، فعندما أرادت الحكومة تقليص ميزانية الأزهر غضب بشدة وقال: «قصد هنا، وإسراف هناك»، وكان يقصد من قوله هذا أن الحكومة تبخل على الأزهر، بينما تمنح الجامعات ما تريد، غير أن أعداء الشيخ فسروا الكلام غير ذلك، فادعوا أنه يقصد إسراف الملك فاروق على رحلاته وسفرياته، الأمر الذى تسبب فى إعفاء الشيخ من منصبه. عاد إلى منصبه كشيخ للأزهر مرة أخرى فى ١٠ فبراير ١٩٥٢ بعد أن تأكد الملك من حسن نيته، وظل بمنصبه حتى بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فقدم استقالته فى ١٧ سبتمبر ١٩٥٢، والتى حاول أن يثنيه عنها الوزير المسئول عن الأزهر فى تلك الفترة السيد «فتحى رضوان»، ولكنه أصر على موقفه وخلفه فى مشيخة الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين.
كان يتميز بسعة الأفق، وجلال الخلق، وعظمة النفس، وقوة النزوع إلى المثل العليا، وشاهد الأحداث الكبرى فى تاريخ الوطن العربى الدينى والفكرى والاجتماعى والسياسى، واشترك فيها موجهًا وهاديًا، وكانت لآرائه الدينية صداها البعيد فى العالم الإسلامى كافة، وقد ركز مجهوده فى السنوات الأخيرة فى الاشتغال بجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية. وقد جعلت هذه الجماعة من أهدافها أن تتفاهم الطوائف الإسلامية على ما ينفع المسلمين، وأن تعمل على نسيان الخلاف واستلال الضغائن من بينها، وله فى هذه الناحية كتابات ورسائل ومراسلات بينه وبين كثير من علماء البلاد الإسلامية. فلم يقتصر فضله على العلم فى مصر، ولكنه تجاوز ذلك إلى آفاق الإسلام وإلى كل الطوائف.
ومن أقواله: «وقد جريت طول مدة قيامى بالإفتاء فى الحكومة والأزهر- وهى أكثر من عشرين سنة- على تلقى المذاهب الإسلامية ولو من غير الأربعة المشهورة بالقبول ما دام دليلها عندى واضحًا وبرهانها لدىّ راجحًا، مع أننى حنفى المذهب، كما جريت وجرى غيرى من العلماء على مثل ذلك فيما اشتركنا فى وضعه أو الإفتاء عليه من قوانين الأحوال الشخصية فى مصر، مع أن المذهب الرسمى فيها هو المذهب الحنفى، وعلى هذه الطريقة نفسها تسير لجنة الفتوى بالأزهر التى أتشرف برياستها، وهى تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة. فإذا كان الله قد برأ المسلمين من هذه النعرة المذهبية التى كانت تسيطر عليهم إلى عهد قريب فى أمر الفقه الإسلامى، فإنا لنرجو أن يزيل ما بقى بين طوائف المسلمين من فرقة ونزاع فى الأمور التى يقوم عليها برهان قاطع يفيد العلم، حتى يعودوا كما كانوا أمة واحدة، ويسلكوا سبيل سلفهم الصالح فى التفرغ لما فيه عزتهم وبذل السعى والوسع فيما يعلى شأنهم، والله الهادى إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل».
توفى الشيخ عبدالمجيد سليم بعد أن ترك رسالة إصلاحية واضحة للأزهر الشريف وذلك فى يوم الخميس ٧ أكتوبر ١٩٥٤.