رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الأمم المتحدة» وليست «الأمم المتفرقة»


كلمات الكاتب المسرحى سعدالله ونوس «إننا محكومون بالأمل، ولا يمكن لما يجرى أن يكون نهاية التاريخ» - تحمل تعبيرًا صادقًا عن بارقة أمل تنتظرها الشعوب من منظمة الأمم المتحدة، إذ سلط تصريح الرئيس السيسى، حول هذه المؤسسة فى مؤتمر الشباب، الضوء على إشكالية مهمة يبدو أن الدول أصبحت للأسف تتعامل معها كواقع مسلم به، بعد تحولات عقود أعادت رسم صورة العالم، ظهور وغياب قوى كبرى، تحول عدة مناطق من حالة الاستقرار إلى بؤر اقتتال مسلح.
ولادة تنظيمات جهادية لا تعترف إلا بقانون الدم، أصبح من حق الشعور الدولى العام مراجعة منظمة أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية كمؤسسة قادرة على إحلال وفرض السلام بين الدول عبر استخدام كل وسائل الضغط لحماية الشعوب، خصوصًا حين يتهاوى دور المنظمة كمفصل مهم ومؤثر فى حسم معاناة الشعوب وإنهاء حالة الفوضى الدولية، خلافًا لكل التعهدات التى أقرها ميثاق تأسيس الأمم المتحدة عن حماية شعوب العالم كونها الضامن الرئيسى للشرعية الدولية. داء الترهل الذى أصاب الأمم المتحدة ليس وليد لحظة، فقد ظهرت بوادره حين ضربت أمريكا وحلفاؤها من دول الغرب بقرارات المنظمة الأممية عرض الحائط عام ٢٠٠٣، فى قرار الحرب على العراق دون موافقتها. الدعم المالى الأمريكى آنذاك أسهم فى تغطية أوجه القصور، حيث عمدت أمريكا باعتبارها القوة الرئيسية المسيطرة على العالم - قبل استعادة الدور الروسى قوته خلال العقد الماضى- إلى «تطويع» الأمم المتحدة واعتبارها غطاءً شرعيًا فى خدمة سياسات واشنطن، سواء اتفقت أو تناقضت مع بنود ميثاق المنظمة. التحديات العالمية عبر ٧٠ عامًا، بداية من الهم العربى المشترك «القضية الفلسطينية»، وعجز الأمم المتحدة عن تحويل قراراتها التاريخية إلى التنفيذ على أرض الواقع كحق للشعب الفلسطينى فى إقامة دولته، حتى اللحظة الحالية الحافلة باشتعال العنف والصراع فى عدة دول سواء عربيًا أو عالميًا، تفرض الحاجة الملحة إلى تطوير المنظومة التقليدية للأمم المتحدة. مصطلحات «القلق»، «التنديد» و«المراقبة» أصبحت بضاعة منتهية الصلاحية فى حسم أطماع إقليمية، تنظيمات دموية تقاتل من أجل فرض سلطتها بحد السيف، استغلال قوى كبرى الأزمات الاقتصادية التى أشار إليها، خلال شهر أكتوبر الماضى، أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس، عن أن المنظمة تعانى عجزًا حادًا يمثل أسوأ أزمة نقدية تواجهها منذ حوالى عقد، مكررًا طلبه السابق من الدول الأعضاء زيادة مساهماتها للمنظمة. المؤكد أنها جزء كبير من أزمة الثقة بين المنظمة الدولية والشعوب التى تتهمها بالانحياز لإرادة ومصالح قوى كبرى، سواء أكانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية، فاللغة التى تجيدها هذه القوى لا تعترف سوى بالمقابل الذى ستجنيه من أى دعم مالى تقدمه.
الشق الاقتصادى لم يتسبب وحده فى جعل الأمم المتحدة بلا سقف واضح، وأفقدها استقلالية القرار، ما أوحى للمجتمع الدولى بعدم جدية المنظمة، حيث أصبحت أولوية الدول الأعضاء تتجه نحو مصالحها بدلًا من التركيز على فرض حلول سياسية وأمنية تضمن حقوق الدول الأعضاء، أصبح واقع حال المنظمة أقرب إلى «الأمم المتفرقة» وليست الأمم المتحدة بعد غياب الاتحاد والوفاق بين أعضائها حول الأزمات الدولية. عامل التوقيت تتضاعف أهميته خصوصًا أن العالم فى أشد الحاجة إلى مراجعة برنامج عمل، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة التى تجمع تحت لوائها دول العالم. ضمن أجهزة الأمم المتحدة مجلس أمن يفترض امتلاكه قوة وقدرة فرض السلام على أى بقعة من العالم. السؤال الأهم هو: فى ظل اشتعال الصراعات فى مناطق مختلفة وإرهاب يهدد كل بقاع العالم دون استثناء «بقوانينه الخاصة» متحديًا كل القوانين الدولية، هل يستمر هذا المجلس فى التغريد بعيدًا عن أهداف وبنود تأسيسه، بمعزل عن خطورة التحولات بين شعوب العالم ومطالبها المشروعة، حيث أصبح المجلس منبرًا للاستعلاء وتصفية حسابات الهيمنة؟، الأدهى سوء السمعة الذى طال مواقف لا حصر لها بحكم حق «فيتو» الممنوح للأعضاء الخمسة دائمى العضوية فى مجلس الأمن. كل التحديات والأحداث الحالية هى أقوى جرس إنذار يهدد بتصاعد الملفات الخطيرة بكل آثارها الكارثية على دول العالم، ما لم تتم مراجعة جادة لسلسلة القيود والعراقيل التى تعيق تعديل وتقوية ميثاق الأمم المتحدة، بالنظر إلى عدة محاور أبرزها توثيق وتفعيل القرارات الصادرة عن الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة. أيضًا حاجة المنظمة إلى شخصية قيادية قادرة على المبادرة بحزم وإدراك لحجم المسئولية الملقاة على عاتقها. المرحلة الراهنة تقتضى قرارات سريعة، حاسمة، واجبة التنفيذ. العالم خلال العقود الماضية واجه مرحلة «مخاض» تمهيدًا لولادة نظام عالمى وليد عجزت عن مواكبته آليات الأمم المتحدة، بعد وصول المشهد العالمى الذى خلفته الحرب العالمية الثانية إلى نهايته، واستنفد برنامج الأمم المتحدة كل الفرص للاتساق مع نظام دولى جديد يعكس الأحداث على أرض الواقع. ستبقى الأمم المتحدة خارج دائرة الثقة طالما تمسكت بالجمود، أسيرة العجز عن مواجهة اشتعال الأزمات، والتصدى لتنظيمات جهادية تهدد كل ما تمثله من قوانين وأهداف، بل يبلغ بالمنظمة الدولية الخضوع إلى الاعتراف بأنظمة حكم رغم سيطرة هذه التنظيمات عليها وفق كل الدلائل. أما دورها المطلوب- إن أرادت البقاء- فلن يستمر دون ثورة إصلاح جذرية تتيح لدول داعية إلى أسس الندية فى العلاقات الدولية، مثل الصين والهند والمجموعة العربية، إلى المشاركة بدورها فى رسم ملامح النظام العالمى الجديد. عندها ستصبح المنظمة ممثلًا حقيقيًا لإرادات وطموحات الشعوب.