رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البطريرك الذى أعاد النهضة الروحية لكنيسته



فى ١٩ أبريل ١٩٥٩ اختار الله لقيادة الكنيسة القبطية راهبًا ناسكًا وتقيًا هو الأب مينا البراموسى المتوحد، فقد جاء بعد ثلاث مخالفات منذ عام ١٩٢٨ فى اختيار أسقف الإسكندرية- الذى يحمل لقب بابا وبطريرك. وعند ذاك أيقن الشعب أن عناية الله تدخلت لاختيار الراهب مينا المتوحد الذى عرف الجميع عنه حياة النسك الدائم والصلاة الدائمة كذلك، ولطالما امتلأت كنيسة القديس مينا بآخر مصر القديمة بالزائرين الذين كانوا يذهبون لالتماس بركته وصلواته، فلم يكن يصلى لأجلهم فحسب وإنما عرف عنه الكثيرون كرمه الزائد، إذ طالما أقام لهم ولائم المحبة، وعلى الرغم من بساطتها لكن رسخت فى ذهن الناس معانى أمومة الكنيسة. وشتان ما بين ١٩ أبريل ١٩٥٩ و٤ نوفمبر ٢٠١٢!! أسقفية الإسكندرية ليست رئاسة بقدر ما هى رعاية صادقة وخدمة باذلة لأبناء الإسكندرية خاصة ولأبناء الكرازة المرقسية بصفة عامة.
فمنذ البابا يؤانس ١٩ البطريرك ١١٣ ثم البابا مكاريوس الثالث البطريرك ١١٤ وأعقبه البابا يوساب الثانى البطريرك ١١٥ كانوا فى الأصل مطارنة وبذلك كانوا مخالفين قوانين الكنيسة. ومن هنا فى كل مرة يتم اختيار أسقف الإسكندرية ليس من الآباء الرهبان يُصاب الشعب بـ«خيبة أمل»، لأنهم يتطلعون دومًا لكرامة كرسى الإسكندرية. وإن كان البعض يقولون إن الأساقفة هم الحراس على سلامة الكنيسة، أقول بكل الصدق والشجاعة إن كثيرًا من أبناء الكنيسة من العلمانيين أكثر حرصًا على سلامة الكنيسة والتمسك بتقاليدها وقوانينها وطقوسها، فالكنيسة محتاجة إلى آباء وليس إلى رؤساء.
والشعب القبطى يعلم تمامًا أن الأسقف «أى أسقف لأنه لا يوجد ما يُسمى (أسقف عام) لأنها بدعة بدأت فى الثمانينيات» أو المطران الذى يصبح- بمخالفة للقوانين- بطريركًا وليس أسقفًا للإسكندرية، لا تقام شعائر لرسامته، إذ هى أقيمت عند رسامته الأولى، وهذه الشعائر لا تُعاد، لذلك توصف بأنها صلوات «تنصيب» لا غير، وبهذا التنصيب يفقد الشعب النشوة التى تملأ القلوب خلال شعائر رسامة راهب لكرسى الإسكندرية. فكسر القانون الرسولى والتقاليد الأصيلة يتضمن حرمان الشعب من مُتعة روحية عُظمى، وهذه المُتعة الروحية وصفها د. ماكلاين Maclane «مدير الجامعة الأمريكية فى الخمسينيات» بأنها شعائر «رهيبة»- ولا عجب فى أن يصفها هذا الغريب الجنس بتلك الكلمة، لأنها الشعائر التى ألهمها الروح القدس للآباء ليرتفع بها من كان راهبًا مغمورًا إلى الرئاسة الكنسية العُليا.
بقرعة هيكلية نزيهة جدًا لا يشوبها أى عوار، سواء من ناحية القانون أو من ناحية الضمير، أفرزت القرعة اختيار الأب مينا البراموسى المتوحد الذى تمت سيامته القانونية والمُفرحة يوم الأحد ١٠ مايو ١٩٥٩ باسم «البابا كيرلس السادس»، وقالوا عن يوم وطريقة الاختيار «يوم ذو رنين خاص»، وكثير من المؤرخين وصفوا الفترة التى رأس فيها البابا كيرلس السادس الكنيسة بأبوة واضحة جدًا وخدمة حقيقية «١٠ مايو ١٩٥٩- ٩ مارس ١٩٧١» بأنها «فترة من البهاء».
ماذا حدث فى تلك الفترة؟ وكيف أعاد البابا كيرلس النهضة الروحية الحقيقية؟ فى فترة تولى المطارنة قيادة الكنيسة تسرب الخمول الروحى بين جنبات الكنيسة، فلم تعُد هناك صلوات تتم فى الكنائس سوى يوم الأحد. وهنا يظن بعض غير العارفين بتاريخ الكنيسة أن الظروف فى ذلك الوقت لم تكن تسمح سوى لإقامة الصلوات يوم الأحد فقط ثم تطورت الظروف بعد ذلك، ولكن ليست تلك الحقيقة! الحقيقة أنه فور تولى البابا كيرلس قيادة الكنيسة بروحانية صادقة- دون انخراط فى سياسات وحفلات واجتماعات- طلب من كنائس القاهرة والإسكندرية «وقد تبعتها بعد ذلك بقية الإيبارشيات» ضرورة إقامة الصلوات أيام الأربعاء والجمعة والأحد، ولم يكتف بذلك بل كان يقوم بزيارات فجائية للكنائس لمتابعة التزامها بالصلاة. فكثير من الأحيان بعد أن كان ينتهى من الصلوات اليومية التى يقيمها بالكنيسة المرقسية يذهب وبصحبته تلميذه إلى أى كنيسة ويحضر الصلوات ثم يغادرها إلى كنيسة أخرى، أو يذهب مبكرًا للصلاة فى أى كنيسة دون سابق إعلان.
ولما وجد أبناء الكنيسة كأنهم بلا راعٍ، كان يحرص بعد أن ينتهى من الصلاة بالكنيسة المرقسية بالقاهرة أو الإسكندرية أو أى كنيسة أخرى، على أن يتوجه إلى قاعة الاستقبالات ليستقبل أولاده فردًا فردًا- كبيرًا أو صغيرًا، رجلًا أو امرأة، فقيرًا أو غنيًا، الجميع عنده سواسية. وكثير من الأحيان كان يعطى لبعض أولاده الفقراء طعام إفطاره لأنه أب لهم ومسئوليته تحتم عليه رعايتهم. وبقدر ما أعطاه الله أى مبلغ من المال- لأنه كان إنسانًا فقيرًا جدًا- كان يرسل مساعداته المالية مع تلميذه إلى بعض الفقراء فى الخفاء ولم يقل يومًا «قفلنا الحنفية»! وبمرور الوقت أصبحت الصلوات يومية فى جميع الكنائس.
من هنا أحس الأقباط بنهضة روحية حقيقية، وليس الأقباط فقط، بل كثير من إخوتنا المسلمين كانوا يتباركون عند توجههم إليه فى الكنيسة. وعندما انخرط الأقباط فى الصلوات الكنسية، كنا نشاهد منظرًا فى منتهى الروعة. فى فترة الأصوام كان يحرص- سواء بالقاهرة أو الإسكندرية- على أن يقيم الصلوات فى وقت متأخر ربما تنتهى فى الخامسة مساءً، فكنت تشاهد أطفال المدارس الصغار، يهرعون من مدارسهم مسرعين إلى الكنيسة حاملين حقائبهم وهم صائمون دون طعام- وبالكنيسة يجدون والديهم- وكنت أحد هؤلاء الأطفال وأنا فى مرحلة التعليم الإعدادى ثم الثانوى. ولئلا نخور فى الطريق، كان يطلب من العاملين بالديوان البطريركى أن يعدوا لنا سندوتشات بسيطة تسد جوعنا حتى نصل إلى منازلنا.
كان يحرص على تجنب أولاده مشكلة الاحتفالات الكنسيةـ كما يحدث فى أيامنا هذه، فطلب من وكيل عام البطريركية بالقاهرة أن يصدر بيانًا باسم «البطريركية» لنشره بجريدة «وطنى»، كما تم إرساله لجميع الكنائس لقراءته على مسمع من الشعب، جاء فيه: «بمناسبة ما تردد فى بعض الصحف والمجلات عن التقويم القبطى أمرنى قداسة البابا كيرلس السادس أن أعلن فى هذا الشأن التمسك بقرار المجمع المقدس الصادر بتاريخ ٥ مارس سنة ١٩٦٠ ونصه (أنه قطعًا للإشاعات وبلبلة الألسن يقرر المجمع المقدس أن الكنيسة القبطية المستقيمة الرأى محتفظة بتراثها الخالد القويم وهى أمينة على ما تسلمته من الآباء القديسين السابقين ومحافظة على ما قررته المجامع المقدسة، ولهذا فإن تواريخ الأعياد وتقويمها هى كما هى بترتيبها الزمنى، كما وضعه آباء الكنيسة الأولون دون تغيير أو تبديل أو مساس». اليوم نرى مطرانية «لوس أنجلوس» بولاية كاليفورنيا الأمريكية تصدر بيانًا به مخالفات عديدة لتقليد الكنيسة فى الاحتفال بعيد الميلاد، والبيان الصادر من البطريركية ضعيف جدًا وغير مفهوم! البابا كيرلس السادس فى عمق روحانيته وأبوته وصدقه حصّن الشعب بداخل الكنيسة، حتى لم يعد أحد يفكر فى مخالفة قوانين وتقاليد وأعياد الكنيسة. اليوم ازدادت نبرة التمرد على الكنيسة من كهنة وأساقفة، أخشى ما أخشاه أن تصل بنا الحال كما هو حادث فى الكنيسة القبرصية والكنيسة اليونانية، حيث بهما فريقان أحدهما متمسك بالتقويم القديم ويحتفل بعيد الميلاد فى ٧ يناير، والآخر انخرط فى التقويم الحديث ويحتفل بعيد الميلاد فى ٢٥ ديسمبر، وبين الفريقين عداوة شديدة تصل إلى درجة البغضة، وبذلك تنقسم الكنيسة والدولة. جميع الكنائس الشرقية متمسكة بالاحتفال بعيد الميلاد فى ٧ يناير، ومنها الكنيسة الروسية. والكنيسة القبرصية ترفض تغيير موعد عيد القيامة.
البابا كيرلس السادس فى عمق أبوته لم يسمح لأحد بأن يفكر خارج فكر الكنيسة المتوارث عبر الأجيال وتمسك بقوة بما وضعه الآباء مسوقين من الروح القدس، وذلك لأنه كان رجل الله بالحقيقة.. تحية لروح البابا كيرلس السادس.