رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصواريخ تعيد كتابة التاريخ


الحروب ليست كلها شريفة، فهناك حروب لنصرة الوطن وأخرى لنصرة المصالح والأطماع الشخصية والمصالح الخاصة، والمقاتلون أيضًا ليسوا كلهم أبطالًا، فالبطولة لمن يدافع عن وطنه بروحه ودمه، والعار للمرتزقة الذين لا يهمهم إلا جنى الأرباح فى ساحات المعارك. وقد شاء القدر أن تكون الأيام الأخيرة من العام ٢٠١٩ فرصة لتأكيد هذا المعنى من خلال حدثين يرتبطان بقضية واحدة، وكلاهما يمثل نقيضًا للآخر.
فقد أطلقت مصر صاروخًا من طراز «هاربون» من غواصة تبحر فى عمق مياه البحر المتوسط، خلال مناورة للقوات البحرية، لتوجه رسالة قوية وحاسمة بأنها لن تسمح بالعبث فى مياه البحر المتوسط، ولا بأمن حقول الغاز، التى نقبت عنها وامتلكتها بموجب الاتفاقيات الدولية، التى وقعتها مؤخرًا مع كل من اليونان وقبرص، وأن أى تهديد أو محاولة للبلطجة من الجانب التركى، سوف يقابلان بكل حزم.
لقد وجه الجيش المصرى رسالة لا لبس فيها، بإطلاق هذا الصاروخ المضاد للسفن الذى يصل مداه إلى أكثر من ١٣٠ كيلومترًا، وهى أن مصر قادرة على حماية حقوقها بقوة السلاح، وبقواتها الجاهزة بأحدث العتاد لمواجهة أعتى التحديات، كما رد أيضًا على هذا السؤال «الغبى»، الذى روجت له صفحات ومواقع جماعة الإخوان الإرهابية على مدى السنوات، التى أعقبت ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٤، وهو «لماذا تشترى مصر كل هذه الأسلحة؟!».
الآن فقط عرف الجميع أن السلاح الذى اشترته مصر على مدى السنوات الماضية كان من أجل حماية حدودها وشعبها، وحماية مكتسباتها وثرواتها، وأهمها حقول الغاز التى اكتشفتها فى مياهها الإقليمية بالبحر المتوسط، وأن أى محاولة للتنطع من قبل تركيا أو غيرها سوف تكلف صاحبها الكثير.
الصاروخ «هاربون»، الذى أطلقته القوات البحرية المصرية من إحدى غواصاتها، كان رسالة واضحة، مفادها أن مصر أصبحت قوة إقليمية كبرى، تعرف كيف تحمى حقها بقوة جيشها، وتعرف كيف تخاطب الطامعين والحاقدين باللغة التى يفهمونها، وهى لغة القوة.
وقد وصلت الرسالة سريعًا، ولذا وجدنا الجانب التركى يتحدث عن استعداده للمفاوضات من أجل حقوق التنقيب عن الغاز.
على الجانب الآخر، كان هناك سلاح آخر تم الترويج له من الجانب التركى يتهاوى فى أول اختبار حقيقى له فى ساحة المعارك، وهو الطائرة المسيرة «الدرون» المعروفة باسم «البيرقدار تى بى ٢»، التى باعت منها لقوات الوفاق وقطر وأوكرانيا، وقد ظهر أردوغان أمام عدسات إعلامه وهو يوقع عليها كنوع من الدعاية لسلاح جديد أراد الإيهام بقوته، أو كما يقول المثل بأنه «هيجيب الديب من ديله»، وقد أثبتت معركة تحرير طرابلس الأخيرة، التى بدأت يوم الخميس الماضى، أنها أشبه بطائرة ورقية تسقط بسهولة وهى محملة بالسلاح دون أن تقدر على إنجاز مهامها، وقد أسقط مقاتلو الجيش الوطنى الليبى منها اثنتين فى يومين، واستولوا على كميات منها فى مخازن تركتها قوات وميليشيات الوفاق.
ولم تكن خيبة طائرات «البيرقدار تى بى ٢» أقل من خيبة المدرعات التركية «كيربى» التى لقبها الأتراك بـ«القنفذ»، لكن مقاتلى الجيش الوطنى الليبى أطلقوا عليها من باب السخرية اسم «لميس»، لأنها رقيقة وتتحطم بسرعة.
لقد أثبتت التدخلات العسكرية التركية فى كل من سوريا وليبيا أن الهدف الرئيسى للأتراك هو عقد صفقات لبيع السلاح التركى والترويج له، وتحقيق المزيد من المكاسب المادية ليس فقط لخزينة الدولة التركية، بل أيضًا لخزينة عائلة أردوغان.
فليس سرًا أن طائرات «البيرقدار تى بى ٢»، تنتجها شركة يمتلكها سلجوق بيرقدار، الذى تزوج سمية ابنة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى العام ٢٠١٦، وتتحدث تقارير عديدة عن عملية الترويج لهذا الطائرات، التى يقوم بها الرئيس أردوغان بنفسه، فهى نوع من الترويج لـ«البيزنس العائلى».
لقد استطاعت أطماع أردوغان وخطواته المتهورة أن تزيد التوترات فى منطقة شرق البحر المتوسط، وترشحها لأن تكون ساحة مواجهات عسكرية محتملة، وقد نجح بصورة منقطعة النظير فى زيادة أعداد خصومه داخل أوروبا بل داخل الكونجرس الأمريكى أيضًا، أما عن خصوماته وزيادة أعدائه داخل تركيا فحدِّث ولا حرج.
الكل يعرف أن حروب أردوغان فى المنطقة ليست شريفة، وأنها محاولات لإحياء أوهام الدولة العثمانية التى ولت وولى زمانها، ليصبح هو سلطانها الجديد، وهو يثبت كل يوم أنه رئيس وقع أسيرًا للماضى، أو لتاريخ قرأه بصورة مغايرة ويريد فرضه من جديد دون أن يملك قدرات حقيقية تؤهله لذلك.. ناسيًا أو متناسيًا أن عقيدة الجيش لا تقل أهمية عن تسليحه، وأن هناك فرقًا كبيرًا بين جيش يؤمن مقاتلوه بأنهم يدافعون عن بلدهم وأرضهم وعرضهم، وهم فى سبيل ذلك مستعدون لأن يضحوا بأرواحهم دون أى تردد، وتلك هى عقيدة الجيش المصرى، وبين جيش يعرف مقاتلوه أن رئيسه لا يثق فيه، وأنه لم يتردد فى أن يجردهم من ثيابهم وليس فقط رتبهم فيما عرف بمحاولة الانقلاب الفاشلة فى تركيا فى يوليو ٢٠١٦.