رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأقدام التركية السوداء فى ليبيا



الاجتماع الذى استغرق ساعتين و١٥ دقيقة بين أردوغان والسراج، شهدته أروقة قصر «دولما باهتشى»، واعتبر بمثابة تدشين جديد لمرحلة حصاد ما قامت به أنقرة طوال العقد الحالى، وبعض مما جرى خلال سنوات ما قبل سقوط نظام القذافى، آخرون اعتبروا ما جرى توقيعه من اتفاقات، ما زالت طى الكتمان، يمثل نقلة نوعية متكاملة الأركان باعتباره توقيعًا من جانب المجلس الرئاسى الليبى، حيث ما زال الأخير يحظى بالاعتراف الدولى، وهى النقطة التى جعلت تركيا تسارع فى الحصول على تلك الورقة الموقعة، حتى يمكن إشهارها فى وجه الممانعين لها فى وجود ذلك المجلس أو بعد رحيله المنتظر حدوثه فى أى لحظة، هذا الأمر روج له أردوغان بعد ساعات من إتمامه باعتباره «حقًا سياديًا» لكلا الدولتين، ولا يجوز النقاش حوله من الأطراف الإقليمية أو الدولية.
مسرح عمليات تلك الاتفاقية، بكامل أطرافها، يعتبرونها، انتهاكًا واضحًا لقانون البحار الدولى ولا يتماشى مع مبدأ حسن الجوار الذى يحكم بين الدول، فمصر واليونان وقبرص، أعلنت بشكل مباشر رفضها لها، وأثينا مؤخرًا أمهلت حكومة الوفاق خمسة أيام للانسحاب منها، أو انتظار سحب الاعتراف بالحكومة الليبية التى يديرها السراج، فالأمر جد ولا هزل فيه فعليًا، خاصة مع ما تسرب من بنود داخل الاتفاقية، والتى يعد أكثرها إثارة للجدل، ما يتعلق بـ«الحفاظ على الأمن وحماية سيادة ليبيا»، وهى معبرة بوضوح عن تدخل عسكرى لا يحتاج إلى علامات استفهام، كما وردت فيها نقطة «حماية الحقوق البحرية للبلدين وفق القانون الدولى»، علمًا بأن السواحل التركية لا تقابل سوى جزء بسيط من السواحل الشرقية لليبيا، والواقعة الآن ومنذ سنوات تحت سيطرة البرلمان الليبى والجيش الوطنى وليس حكومة الوفاق، وفى الأخير تصريح مرافقى أردوغان قبيل ذهابهم إلى قمة «الناتو» بلندن، أن مدة الاتفاقية (١٠ سنوات) يدفع الجانب الليبى فيها مبلغ (٢ مليار دولار) سنويًا لأنقرة.
هذه الخطوات الجديدة التى ذهبت إليها أنقرة؛ تستند فى محركها الأساسى إلى العقيدة البحرية التركية الجديدة، وتأتى الاتفاقية الجديدة وفق ما يتعلق بالجزء المتوسطى فيها، هذا بالإشارة إلى أن هذه العقيدة وضعت لأول مرة فى يونيو ٢٠٠٦، من قبل «الأدميرال رمضان جيم جوردينيز» خلال ندوة فى مركز قيادة القوات البحرية التركية، حيث أشير فيها بوضوح إلى أن هناك منطقة بحرية ضخمة عبر نصف شرق البحر الأبيض المتوسط، تنتظر السيطرة التركية فى حال استطاعت أنقرة سياسيًا تجاهل ما يسمى «الجروف القارية» لجزر قبرص، والجزر اليونانية رودس وكاستيلوريزو وكارباثوس وكاسوس، فضلًا عن الجزء الشرقى من جزيرة كريت. كما ذكرت فى تلك العقيدة أيضًا؛ أن هذا يحتاج إلى عدة نقاط أخرى سميت «ارتكازات الدعم»، من خلال إظهار القوة فى الخليج العربى والبحر الأحمر. وهذا تمثل فى وجود قواعد عسكرية فى كل من قطر والصومال، والقاعدة البحرية التى كان مخططًا تدشينها فى «جزيرة سواكن» السودانية. فى الوقت الراهن امتدت رؤية «جوردينيز» حول الولاية البحرية التركية، لتشمل مناطق شاسعة من البحر الأسود والبحر المتوسط وبحر إيجة، بعد أن جرى تطوير كبير لأفكار جوردينيز قام بصياغتها ونشرها فى كتاب، صدر مؤخرًا بعنوان «كتابات عن الوطن الأزرق».
قبل ساعات من سفر أردوغان إلى لندن، حيث تبادلت كل من تركيا واليونان رغبتيهما فى الجلوس سويًا للتباحث حول الاتفاقية البحرية الجديدة، استبقه التسريب الصحفى لجريدة «ينى شفق» التركية، التى وصفت اليونان بأنها تجلس جنبًا إلى جنب مع المشير «خليفة حفتر»، مع عدم إغفال وصف المشير الليبى بالأوصاف القاسية التى اعتاد الإعلام التركى الترويج لها. صلب التسريب كان يشير إلى أن وفدًا تابعًا للمشير وقع اتفاقًا فى أثينا مع (شركة لياد) اليونانية للاستشارات فى أكتوبر الماضى، من أجل إعادة بناء «بنغازى» ثانى أكبر مدينة فى ليبيا، فى إطار ما سمى «خطة بازل للتنمية العمرانية العامة فى بنغازى»، حضر هذا الاجتماع بين الشركة اليونانية والجانب الليبى، وزير الخارجية «نيكوس ديندياس» وكذلك عمدة أثينا «كوستاس باكويانيس»، وخلال هذا اللقاء أكد الوزير اليونانى أن أثينا مستعدة لاستئناف عمل القنصلية اليونانية فى بنغازى، وإعادة الربطين البحرى والجوى بين المدينتين. كما حضر الاجتماع أيضًا ممثلو الشركات العاملة مع «مطار أثينا» اليونانى، فى مجال الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية، مما يعنى أن هناك تباحثًا ودراسة لتقديم خبرات وخدمات من هذا النوع للجانب الليبى. وهنا يقصد الجانب التركى؛ إلى الإشارة بأن التنافس بينها وبين اليونان مشروع وقائم بالفعل، ويبغى أيضًا تقديم الاتفاقية التركية باعتبارها تسير فى هذا الاتجاه، هذا بالطبع اختزال كبير واستخفاف فى غير محله بالنظر إلى عدم جدارة المقارنة، بين خطوة يونانية تسير فى اتجاه قصير ومحدود يتعلق بعقود «إعادة الإعمار» والتأهيل للمدن والمرافق الليبية، وبين معادلة تركية تضرب فى صميم الأمن القومى لأطراف الإقليم المتداخل مع مسرح عمليات ملىء بالمصالح والتهديدات.
الجدير بالإشارة إليه أيضًا؛ أن الخيط الأبيض لم يجر الكشف عنه وسط تلك الخطوات السوداء، فيما يخص موقف القوى الكبرى من هذا التحرك التركى الأخير. فهناك إشارات خفية بأن أردوغان قائمة خلافاته متخمة مع أعضاء الناتو، الأوروبيين المطلين على هذا المشهد الجديد من الشمال القريب، والأمريكيين الذين لم ينتهوا بعد من ترتيب الأوضاع فى الشمال السورى. لذلك فقد يكون الأقرب للفهم أن هذه الخطوة لها علاقة ارتباط خفى بسماح أمريكى، إن لم يكن بدفع مباشر للخادم التركى، كى يتقدم لصناعة مساحة جديدة من الاضطراب والتوتر قد تفيد واشنطن فى الوقت الراهن. هذا فى مواجهة روسيا فى جزء منه، ضربًا لعلاقتها التى تتنامى مع المشير خليفة حفتر، فضلًا عن إعادة استحواذ واشنطن على عصا القيادة فيما يخص ليبيا، والتى فى الحقيقة لم تفقدها أو تتركها يومًا منذ العام ٢٠١١، لكنها ربما تغافلت عنها قليلًا لصالح ملفات المنطقة الأخرى، ومنها تعلمت الكثير حتى من منافسيها.