رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتحار حرقًا.. أو حرقانًا



الانتحار حرقًا بإشعال النار فى النفس، هو الوجه الآخر، فى تونس، للهجرة غير الشرعية، التى يصفونها هناك بـ«الحرقان». وغالبًا، يرجع الوصف إلى قيام المهاجرين بحرق بطاقات هوياتهم أو جوازات سفرهم، قبل صعودهم إلى المراكب التى تقلهم إلى الشاطئ الآخر أو إلى الموت.
من تقارير المرصد الاجتماعى، التابع للمنتدى التونسى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يمكنك بسهولة استنتاج أو استخلاص أن حالات الانتحار، فى تونس، حرقًا أو حرقانًا، أى بالـ«حرقان»، فى تزايد، نتيجة فقدان الأمل فى الحاضر والإحساس بأبدية الأزمات وعجز الطبقة السياسية، أحزابًا وحركات وهياكل، وكذا المجتمع المدنى، بجمعياته وهيئاته ونقاباته، عن فعل أى شىء إلا المزايدات وإطلاق الشعارات.
عبدالواحد الحبلانى، شاب تونسى فى الخامسة والعشرين أشعل النار فى نفسه احتجاجًا على الفقر وسوء الأحوال المعيشية، فى واقعة تكررت كثيرًا منذ إضرام محمد البوعزيزى النار فى نفسه فى مثل هذا الشهر سنة ٢٠١٠، وأشعلت الاحتجاجات التى أعقبت جنازته الثورة التى أنهت حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن على. وأيضًا، ما زال آلاف الشباب التونسى يخاطرون بحياتهم بسبب البطالة وانعدام فرض العمل، بعبور البحر المتوسط. والأربعاء قبل الماضى، مثلًا، أعلنت وزارة الدفاع التونسية، أنه تم إنقاذ ٤٠ شخصًا، قبالة صفاقس فى شرق تونس، أثناء محاولتهم التوجه إلى أوروبا.
الحبلانى، كان يقيم ويعمل بشكل غير منتظم، فى مدينة جلمة، التابعة لولاية سيدى بوزيد، مسقط رأس البوعزيزى، التى لا تزال تعانى من استمرار التهميش، بعد تسع سنوات من الثورة التى تفجرت، من هناك، ضد الفقر والبطالة والفساد. وعليه، شهدت المدينة، أيضًا، احتجاجات عنيفة بعد دفن الجبلانى، قام خلالها المتظاهرون بإغلاق الطرق، وإحراق إطارات السيارات، قبل أن تتدخل الشرطة، وتطلق قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة، لدرجة أن كثيرين من سكان البلدة أصيبوا باختناق. غير أن الاحتجاجات استمرت. وأمس الإثنين، استقبل محمد صدقى بوعون، والى سيدى بوزيد عائلة الشاب ووعدها بمساعدة مالية وبطاقة علاج مجانى. ودعاها، وكل أهل المدينة إلى الحفاظ على الممتلكات العامة وإعادة الهدوء إلى مدينتهم.
فى ديسمبر الماضى، حدث المشهد نفسه فى مدينة القصرين، غرب البلاد. اندلعت اشتباكات بين محتجين تونسيين وقوات الأمن بعد قيام عبدالرزاق الرزقى، المصور التليفزيونى، بإشعال النار فى نفسه. وفى مقطع فيديو نشره قبل أن يشعل النار فى نفسه، قال المرحوم: «أولاد القصرين البطالة ( العاطلين على العمل) الذين لا يملكون مورد رزق وليس لديهم ما يأكلون عندما يتأهبون للاحتجاج تحدث عمليات إرهابية يعنى اسكت أغلق فمك.. نداء للقصارنية سأقوم بثورة وحدى، لأننى سأشعل ثورة وحدى. سأشعل نفسى». ووقتها، نعت نقابة الصحفيين التونسيين الرزقى، وحمّلت فى بيان «المسئولية للدولة التى ساهمت فى جعل القطاع الصحفى مرتعًا للمال الفاسد والمشبوه الخادم لمصالح ضيقة».
نجلاء عرفة، منسقة المنتدى، «المنتدى التونسى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، أكدت أن أسباب الانتحار متعددة، لكنها ذكرت أن أبرزها هشاشة الوضع المهنى والبطالة والضغوط الاقتصادية. كما أرجعه عبدالستار السحبانى، المسئول بالمنتدى، إلى فقدان الأمل وتدهور المناخ السياسى والاقتصادى والاجتماعى بعد الثورة.
هذه التفسيرات أو التخريجات، وغيرها، لا تخرج عن تلك التى ذكرها إيميل دوركايم، مؤسس علم الاجتماع الحديث، فى كتابه «الانتحار» الصادر سنة ١٨٩٧، الذى قال فيه إن الانتحار فى صيغته المجردة هو «إعلان موقف يتخذه الفرد ضد وضع اجتماعى بعينه». وأشار إلى أن ما يدفع الأفراد إلى الانتحار هو ضعف التنظيم الفردى والجمعى، وفقدان المجتمع للقدرة على تنظيم شئون أفراده بشكل يجعلهم يواصلون الحياة. موضحًا أن ارتفاع معدلات الانتحار، تدل على وجود «خطأ ما» فى النظام الاجتماعى. وإجمالًا، يمكن تلخيص نظرية «دوركايم» فى أن الانتحار تتسبب فيه قوة متجاوزة لقدرة الفرد.
من وقتها، أى منذ سنة ١٨٩٧، لم تتوقف الدراسات والأبحاث التى تتناول فكرة الانتحار، والتى ركزت بشكل عام على ثلاثة أسباب أو عوامل: اجتماعية، نفسية، وأخرى جينية تؤجج السلوك الانتحارى لدى الفرد. وانتهت منظمة الصحة العالمية إلى أن الانتحار، عادة ما يكون مرتبطًا بفقدان القدرة على مواجهة ضغوط الحياة، والمشاكل الأسرية، والعاطفية، والمالية، أو باضطرابات نفسية، أو أمراض مزمنة، أو حالات إدمان، وأيضًا بالأقليات المضطهدة فى المجتمعات.
ما يوصف بالانتقال الديمقراطى فى تونس نال (ولا يزال) إشادات دولية واسعة، لكن الواقع يقول إن التونسيين يعانون أوضاعًا صعبة. ولن نرهقك بالأرقام والنسب التى تضمنتها تقارير المرصد أو المنتدى، مكتفين بالإشارة إلى أنه خلال أكتوبر الماضى فقط، تم تسجيل ٢٠ حالة انتحار و٨٣٤ تحرك احتجاجى، فى الدولة الشقيقة، التى يزيد تعدادها قليلًا على ١٠ ملايين نسمة!.