رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصحافة والتاريخ


شهد القرن العشرين ولعًا خاصًا من جانب بعض الصحفيين بمعالجة التاريخ، ربما كان الدافع الأكبر وراء تلك الظاهرة سرعة مجريات الأحداث فى ذلك القرن، وظهور الحروب العالمية لأول مرة، بالإضافة إلى تطور وسائل الاتصالات بشكلٍ مذهل.
أدى ذلك إلى نشوب جدل حاد حول «مَن يكتُب التاريخ؟»، وفى البداية ناصب المؤرخون هذا الأمر العداء، واعتبرو ذلك تطفلًا من جانب الصحفيين، وأن عامل التأهيل المهنى فضلًا عن الحيدة والموضوعية لا تتوافر لدى الصحفى. لكن ظاهرة الكتابة الصحفية للتاريخ لم تتوقف، بل ازدهرت بشكلٍ كبير لا سيما مع ظهور حركات التحرر الوطنى، وأزمات فترة الحرب الباردة، ورويدًا رويدًا بدأ تراجع المؤرخون عن موقفهم التقليدى إزاء الكتابة الصحفية للتاريخ، وظهر لأول مرة مصطلح «المؤرخون المحترفون» لوصف أساتذة التاريخ فى الجامعات، و«المؤرخون الهواة» لوصف غيرهم وبصفةٍ خاصة المعالجات الصحفية للتاريخ.
وعلى الجانب الآخر لم يهتم الصحفيون الذين كتبوا فى التاريخ باكتساب صفة المؤرخ، بل الأكثر من ذلك أنهم نفوا عن أنفسهم لقب «المؤرخ»، ولعل أهم النماذج فى هذا الشأن «محمد حسنين هيكل» و«جان لاكوتير» الصحفى الفرنسى الشهير، إذ كتب هيكل فى كتابه الشهير «حرب الثلاثين عامًا» مؤكدًا أن كتابه «ليس رسالة دكتوراه... إنما أنا أكتب كتابًا هو عبارة عن قراءة صحفية للتاريخ من المفروض أن تصل إلى أكبر عدد من القراء».
وعلى نفس النحو، وبتواضعٍ شديد، يذهب لاكوتير إلى أن الصحفى الذى يحترم نفسه لا يمكن أن يجرؤ على التعدى على اختصاص المؤرخ أو صلاحياته.
لكن الزمن وتطور وسائل الاتصال وأيضًا تطور الكتابة كانت لها رأيًا آخر، حيث ازداد ارتباط الصحافة بالتاريخ بشكل كبير أذهل الجميع، وذهب أحد كبار الصحفيين المؤرخين إلى أن كتاباتهم هى «مسودة التاريخ الأولى»، وازدادت شرعية الكتابات الصحفية فى التاريخ بمقولة «بول ريكور» عن التاريخ نفسه، فالتاريخ كتابة مستمرة لكتاباتٍ سابقة، ومن هنا تكون كتابات الصحفى هى المسودة الأولى للتاريخ.
بل وذهب المؤرخ المغربى الكبير «عبدالله العروى» أبعد من ذلك، حيث رأى أن المؤرخ والصحفى يقومان بالعمل نفسه ويتوخيان مساراتٍ متشابهة:
«كلاهما يعتمد على خبر، وكلاهما يؤول الخبر ليعطيه معنى».
ولعبت ثورة الاتصالات وحرية تداول المعلومات دورًا فى هذا الشأن ما دفع المؤرخ «كارتون آش» إلى القول: «إن ما يمكن للمرء معرفته فور وقوع الحدث قد تزايد فى الوقت الحاضر. وفى المقابل هناك تضاؤل لما يمكن معرفته بعد فترة أطول على انتهاء زمن وقوع الحدث».
وكان التطور الأكثر إثارة هو توجه أساتذة التاريخ إلى الكتابة فى الصحافة مثل «رونى ريمون»، من أجل تجسير الفجوة بين التاريخ والصحافة، وسار على نفس الخط بعض كبار المؤرخين المحترفين مثل «ريمون آرون» و«فرانسوا فيرى»، ولم تعد هناك خطوط فاصلة بين المؤرخ والصحفى، ورأى البعض أن المقولة التقليدية «التاريخ بارد والصحافة حارة» قد أخذت فى التداعى، لا سيما مع ظهور فرع جديد فى التاريخ هو «تاريخ الزمن الراهن» يعالج الحاضر.