رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيران.. الطرف الظاهر من جبل الجليد


«هستيريا» القمع والوحشية التى انتابت نظام الملالى فى إيران قد تتمكن- مؤقتًا- من تخفيف حدة موجات الاحتجاج الشعبى التى عمت كل مدن إيران، مطالبة بسقوط أصنام «العجوة» التى استنزفت، باسم الهوية الطائفية الدينية، مقدرات الشعب فى سبيل بسط نفوذها السياسى والأمنى إقليميًا. السؤال الأهم: هل يمثل العنف وإراقة الدماء رهانًا مضمونًا يرتكز عليه النظام مستقبلًا؟.. كل الدلائل تؤكد أن الظاهر من جبل جليد الغضب الإيرانى ما هو إلا القمة التى تخفى تحتها واقعًا هائلًا من الصراعات والانشقاقات فى النظام الذى دخل مرحلة لا عودة فيها إلى الخلف، وأصبح غير قابل للحياة مهما بلغت قوته القمعية ضد الاحتجاجات التى قد تتخذ ظاهريًا طابعًا اقتصاديًا.. لكن يحمل رفضًا للنظام.
موجة الغضب الأخيرة هى الثالثة ضد النظام. الأولى حين اندلعت عام ٢٠٠٩ احتجاجات على تزوير الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لتكشف عن حجم الصراع داخل مؤسسة الحكم. الثانية حدثت بين عامى ٢٠١٦-٢٠١٧ بتحريض من الحرس الثورى أملًا فى زعزعة حكم حسن روحانى وإرباك التيار المعتدل.. لكن الحرس أدرك أن تحريضه فتح أبواب غضب جماهيرى واسع تصعب السيطرة عليه بعدما استهدف غضب الشارع الإيرانى النظام بأسره، استغرق إخماد موجة الغضب هذه فترة أطول نتيجة انتشارها بين شرائح مختلفة فى ٥٠ مدينة فى إيران، بينما الموجة الحالية هى الأوسع فى الإعداد والانتشار. تاريخ الأحداث إذًا يشير إلى أن كلمة النهاية لم تكتب بعد فى مسلسل موجات الغضب الإيرانى رغم السطوة القمعية لقوات الحرس الثورى تيار الملالى المتشدد.
أولى القنابل الموقوتة التى يتمسك النظام الإيرانى بعدم إبطال مفعولها، غضب الشارع من إغراق الاقتصاد الإيرانى- المتأزم أصلًا- نتيجة توجيه موارده لتمويل ميليشيات تدين بالولاء المطلق لإيران فى دول وضعتها تحت سطوتها.. إيران تنفق مليارات الدولارات على تسليح ودعم ميليشيات عملت على تأسيسها كقوى موازية للجيش وفق نموذج الحرس الثورى فى دول مثل لبنان، العراق، اليمن، سوريا، فى الوقت الذى يعانى الإيرانيون من الفقر والحرمان. النظام بعد بسط نفوذه على أربع دول عربية، فضلًا عن وصول خلاياه إلى المغرب العربى، سيتمسك حتى آخر ما فى جعبة وسائله القمعية بإبقاء العراق- تحديدًا- تحت قبضته. إذ من المؤكد أن خروج الأخير بكل تصاعد الانتفاضة الشعبية التى يشهدها ضد إيران، سيؤدى إلى توقف المشروع السياسى الإيرانى فى المنطقة العربية وتراجع نفوذها بعد الصدمة التى أحدثها للنظام الإيرانى انفجار غضب الشارع العراقى وهو يواجه رفض «شيعة» العراق كل ما رسخ له من آفات طائفية ومذهبية وسطوة أحزاب دينية وقوى سياسية تجاهر بتبعيتها لولاية الفقيه فى إيران، وهو ما لم يكن وفق حسابات إيران مطلقًا، خصوصًا مع استمرار الاحتجاجات فى لبنان والعراق، ما يزيد من إحساس النظام بالتهديد الذى تمثله على استقرارها ونفوذها الذى نسجت خيوطه عبر عقود. القنبلة الموقوتة الثانية تعود إلى تاريخ شديد الرسوخ فى عقيدة قادة النظام الإيرانى منذ قيام الثورة الإسلامية ووصول الملالى إلى الحكم.. ارتبطت مصطلحات «الجواسيس» و«أعداء الثورة» بالقاموس السياسى المتداول.. الهاجس الذى فتح الباب أمام القوى الدينية لاستغلال حركات الاحتجاج وتحويلها إلى معارك تصفية حسابات سياسية ضد بعضها البعض، سعيًا للاستئثار بالنصيب الأكبر من النفوذ. التسريبات الصادرة عن أطراف داخل النظام، بدأت تتحدث عن أن قرار رفع أسعار الوقود ما هو إلا خطوة استباقية هدفها استدراج العناصر التى تخطط ضد النظام للخروج من أوكارها. فمراكز النفوذ لم يعد بإمكانها السكوت عن وجود محتمل لعملاء وجواسيس، ليس فقط فى المؤسسات المنتخبة كالرئاسة والبرلمان التى تتمتع الأصوات الإصلاحية داخلها بنفوذ معقول، لكن بين أكثر الكيانات ثورية وعداء للغرب. وهو ما أكدته تصريحات وزير المخابرات محمود علوى عن اختراق مراكز قوى متشددة مثل الحرس الثورى. نظرية «الجواسيس» سيتضاعف استغلالها الفترة القادمة وفقًا لقاعدة أن الجميع متهم حتى من يعلنون الولاء لنظام ولاية الفقيه، ما سيزيد من مشاعر الاستفزاز والغضب الشعبى.
القنبلة الثالثة التى يغامر قادة إيران بالتلاعب بها، تتمثل فى تهيئة المشهد السياسى سواء من خلال إقصاء المعارضين، قطع الطريق أمام احتمال لمخاطرة سياسية تهدد مراكز النفوذ القائمة، قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة فى فبراير المقبل والرئاسية خلال عام ٢٠٢١، إذ يسعى التيار المتشدد لاستعادة الأغلبية داخل مجلس الشورى، والفوز بمنصب الرئاسة خلال استغلال الاحتجاج الشعبى فى تأليب الناخبين ضد المؤسسات الحالية، وتحميلها مسئولية تفاقم الأزمة الاقتصادية، وذلك لممارسة ضغوط أكبر على روحانى. فالمعارك السياسية بالتأكيد لم تكن غائبة عن الحركات الاحتجاجية فى إيران سواء السابقة أو الحالية.
فى المقابل، فإن إعلان تسريبات جريدة نيويورك تايمز وموقع ذا إنترسبت حول الاحتجاجات فى العراق وإيران لم يصدر من باب الصدفة.. فهو يحمل إشارة واضحة إلى هدف أمريكا، إضافة لضغوط سياسية على إيران بعد حصار وعقوبات أنهكت الاقتصاد الإيرانى.. الأمر الذى زاد من إحساس النظام بالتهديد خاصة فى ظل استمرار الاحتجاجات فى لبنان والعراق. ردود الفعل العنيفة من النظام تعكس أزمة خطيرة وحالة خوف مع تزايد الضغوط الدولية على إيران، حيث وصلت علاقاتها مع الدول الأوروبية إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر بعد التحسن الذى شهدته بين عامى ٢٠١٦-٢٠١٧.
أخيرًا أخطر ما فى جبل الجليد الإيرانى لم يظهر بعد، خصوصًا مع استمرار الأزمة الاقتصادية والتمسك بسياسة العصا الغليظة، ستظل موجات الغضب الإيرانى قابلة للانفجار.