رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كل هذا المرار.. فى بنى مزار



تعرفت إلى المايسترو سليم سحاب أثناء سنوات الدراسة فى موسكو. كان يدرس قيادة أوركسترا فى الكونسرفتوار، وأنا بجامعة موسكو كلية الأدب واللغة. وانعقدت بيننا صداقة استمرت من دون انقطاع، وتوطدت بعد استقراره فى القاهرة. وذات يوم هاتفنى المايسترو وقال لى: «أحمد أنت عندك سيارة، ماتيجى معى نقابل أخى على المطار؟». قلت: «طبعا، بكل سرور». وأردفت: «أخوك من؟». قال: «جورج». وتوقفت بدهشة أمام الاسم وقلت له: «وأنت إيه علاقتك بجورج؟!». قال مدهوشًا: «أنت بعد عشرين سنة صداقة لا تعرف أنى مسيحى؟!». قلت له صادقا: «الحقيقة عمرى ما فكرت فى هذا الموضوع. أنا أنظر إلى الإنسان طيب، صادق، ولا أفتش فى عقيدته أو أفكاره».
ضحكنا، وذهبنا عصر اليوم ذاته إلى المطار نستقبل جورج. أتذكر هذه الواقعة لأعبر ليس فقط عن دهشتى بل وعن تألمى الشديد بسبب ما جرى مؤخرًا فى قرية الناصرية مركز بنى مزار بمحافظة المنيا، حين اعتدى متطرف من المسلمين يدعى محمد عيد مرسى على أسرة قبطية لمجرد جلوسها فى الشمس أمام بيتهم! شاهدهم فصرخ فيهم: «مش قلنا ما فيش نصارى يقعدوا قدام البيوت؟». وهرول إلى بيته وجلب سنجة وضرب الأم على رأسها فأحدث فيها جرحًا استلزم عشرين غرزة، وحينما هب شنودة لحماية والدته طعنه المجرم فى رقبته وبطنه لدرجة أنه يرقد الآن فى مستشفى فى حالة حرجة بعد عملية استئصل فيها جزءًا من الأمعاء.
هى محافظة المنيا ذاتها التى سبق للمتطرفين فيها أن اتهموا أربعة أطفال مسيحيين بازدراء الدين الإسلامى، وهى المنيا ذاتها التى خرج فيها المتطرفون فى مطلع مارس ١٩٩٠ بعد صلاة الجمعة فى أبوقرقاص واعتدوا على الأقباط ونهبوا بيوتهم وأتلفوا الكنيسة القائمة بقرية بنى عبيد، وحطموا كنيسة مار جرجس وأحرقوا صور السيدة العذراء، كما أشعلوا النيران فى صيدلية الدكتور حنا كيرلس، وصيدلية دكتور ممدوح فرج، ودمروا أجزاء من مستشفى الطبيب مراد دانيال، ودار حضانة قبطية، ودمروا كل المحال الخاصة بالأقباط بما فى ذلك مصنع للحلوى ملك القبطى أشرف سعد.
وحسب مجلة المصور فقد قدرت النيابة العامة فى حينه خسائر الأقباط بنحو ثلاثة ملايين جنيه! سبق تلك الأحداث بشهر إعلان شيوخ الجوامع فى المنيا الجهاد «ضد الكفار»! هى المنيا ذاتها التى تم فيها عام ٢٠١٦ تعرية امرأة قبطية عجوز، هى سعاد ثابت، وإجبارها على السير عارية فى القرية! والآن بعد عامين من تعرية امرأة، وبعد عشر سنوات من غزوة ١٩٩٠ أصبح المطلوب من المواطن القبطى ألا يجلس أمام بيته ليتشمس! هل يمكن النظر إلى جريمة محمد عيد مرسى وأمثاله من الأوباش على أنها جريمة جنائية وحادثة عدوان فردى؟ أم أنها جريمة طائفية وثقافية وحضارية ووطنية شارك فى تمهيد الأرض لها شيوخ مثل الشعراوى، الذى يفتى فى فيديوهات مسجلة بصوته قائلًا بالحرف الواحد: «إما الإسلام أو الجزية.. احنا عملنا فيكم جميل وكنا نقدر نموتكم»، وغير ذلك كثير مما قاله الشعراوى والكثيرون من أمثاله ممن يتعمدون نسيان الكثير ومن ذلك أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، استقبل وفدًا مسيحيًا من نجران، وعندما حان وقت صلاتهم دعاهم الرسول إلى أدائها فى بيته ثم استأنف اللقاء.
لقد أصبحت المنيا بحاجة إلى نظرة خاصة من الدولة بعد كل تلك الأحداث التى تؤكد أن هناك بؤرة إجرامية لا تكف عن العدوان، وبعد أن صار محرمًا على المواطن القبطى أن يتشمس فيها! ليس للمرار المنبعث من بنى مزار حدود، وعندما تنتقص حقوق أخى القبطى فإن الشعور بالمرارة يجتاحنى، لأن فى ذلك انتقاص من تاريخ مصر ووجودها، وانتقاص للضفيرة التى أبدعت مصر على كل المستويات والتى تألفت من عبدالمنعم رياض واللواء زكى باقى يوسف، ومن طه حسين وسلامة موسى، ويوسف إدريس ويوسف الشارونى، ومحمد مندور ولويس عوض، ومن إسماعيل يس ومارى منيب، ومن بهاء طاهر وإدوار الخراط. ما جرى هو إهانة عميقة للمحبة، وللمواطنة، وللدولة، ولم يعد يكفى هنا الإجراء الأمنى، إذ لا بد من زيارة المسئولين لتلك القرى، وزيارة الوفود الثقافية لها، والنظر إلى ما حدث بصفته تهديدًا لوحدة مصر ومستقبلها بالخناجر والمطاوى والكلمات والفتاوى.