رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ سليم البشرى.. المتمسك بالحق بشجاعة نادرة



وُلد سليم البشرى فى قرية «محلة بشر» التابعة الآن لمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة لعام ١٨٣٢م، التى نُسِبَ إليها وتربَّى فيها يتيمًا حيث توفى والده وهو فى السابعة من عمره، وكفله أخوه الأكبر السيد عبدالهادى البشرى، وحفظ القرآن الكريم وهو التاسعة من عمره ثم سافر إلى القاهرة واحتضنه خاله السيد بسيونى البشرى، وهو من شيوخ ضريح السيدة زينب، وتعلم على يد خاله مبادئ العلوم، وظل معه مدة عامين، درس فيهما عليه وعلى غيره من العلماء الذين كانوا يحاضرون بالمسجد، فدرس قراءات القرآن الكريم تمهيدًا للالتحاق بالأزهر، والتحق به وهو ما زال تحت رعاية خاله، واتصل بكبار العلماء وتلقى عنهم، فدرس الفقه المالكى وكان يأخذ به معظم سكان منطقة البحيرة آنذاك.
ظل يواصل الدراسة بالأزهر تسع سنوات كاملة، ودرس علوم الأزهر المقررة حينئذ على أيدى كبار مشايخ عصره، وظهر نبوغه ومارس التدريس مكان الشيخ «الحنانى» وذاع أمره، وتهافت عليه الطلاب، وتخرج على يديه جماعة من كبار العلماء منهم الشيخ محمد راشد إمام «المعية السنية» و«الحاشية الخديوية» والشيخ بسيونى البليباتى والشيخ محمد عرفة وغيرهم، ونبغ فى علوم كثيرة، وخاصة فى علوم الحديث نبوغًا كبيرًا أبلغه درجة كبار المحدثين وأصبح شيخًا ونقيبًا للمالكية، وشارك فى حركة الإصلاح بالأزهر الشريف فى عهد الشيخ «حسونة النواوى».
كان فى مقدمة العلماء الذين وقع عليهم الاختيار لعضوية مجلس الأزهر مع الشيخ محمد عبده والشيخ عبدالكريم سليمان وغيرهما من كبار العلماء، وأصيب بالمرض مدة عامين كاملين، لم ينقطع فيهما الطلبة عن الذهاب إليه فى بيته بحى «البغالة» بالسيدة زينب. فكان يلقى عليهم دروسه صباح كل يوم، ولما أتم الله شفاءه عُيِّنَ شيخًا لمسجد السيدة زينب، فقرأ فيه أمهات الكتب، والتفَّ حوله الطلبة وتابعوا دروسه وكثرت أعدادهم، وكان عضوًا بارزًا فى المجلس، وهو من أكبر مناصب الأزهر، وظل شيخًا للمالكية حتى وفاته.
درس الشيخ سليم البشرى فى الجامع الأزهر، وترقى فى المراتب العلمية والروحية حتى نال تلك المنزلة الرفيعة وهى تولى مشيخة الأزهر لفترتين متعاقبتين كانت الأولى سنة ١٩٠٠، والثانية استمرت فى الفترة «١٩٠٩ - ١٩١٦». تميزت فترة توليه مشيخة الأزهر بالحزم وحسن الإدارة، حيث تم فى عهده تطبيق نظام امتحان الراغبين فى التدريس بالأزهر.
عندما وقع عليه الاختيار ليكون شيخًا للأزهر، اعتذر عن عدم قبول هذا المنصب الكبير، وبالغ فى الاعتذار محتجًا بكبر سنه وضعف صحته، ولكن أمام الإلحاح الشديد قبل المنصب.
تولى الشيخ البشرى، منصب شيخ الأزهر مرتين: الأولى سنة ١٩٠٠ ولبث فيه أربع سنوات تقريبًا، أظهر فيها سداد الرأى وقوة الحزم، واستقال نتيجة اضطراب الأحوال وأمور لم يقبلها، وذلك فى عام ١٩٠٤، وعين بدلًا منه الشيخ الببلاوى، ثم تم تعيينه مرة أخرى شيخًا للأزهر عام ١٩٠٩ وظل فيها حتى وفاته.
درس على أيدى كبار علماء عصره ومنهم الشيخ عليش والشيخ الباجورى والشيخ الحنانى الذى كان يقرأ كتابًا من أمهات الكتب على طلبة الدراسات العليا، وعندما وصل بشرحه إلى نصف الكتاب أصيب بمرض وبقى أشهرًا وهو فى فراش المرض، والطلبة فى انتظاره، فلما أحسَّ بشىء من الراحة طلب أن يُحمَل إلى مجلس علمه، وقال لطلبته: إنى ذاهب وليست لى القدرة الآن على تحصيل العلم، وإنى مستخلف عليكم إتمام درسى أجدر الناس به، وأمسك بيد الشيخ سليم البشرى، وأجلسه فى مجلسه، فأتم الكتاب على غرار شيخه وظل يباشر التدريس بعدها.
له العديد من المواقف الحازمة منها واحدة كانت من أسباب تقديم استقالته من المشيخة، وذلك عندما قام باختيار أحد العلماء وهو الشيخ أحمد المنصورى شيخًا لأحد أروقة الأزهر، طُلب منه العدول عن تعيينه، فأبى الشيخ الإمام الرجوع عن اختياره وكان جريئًا عندما قدم استقالته أول مرة، فلم يترك درس العلم ولم يحاول أحد أن يزحزحه عن رأيه، وقال كلمته فى عزة وإباء: «إن كان الأمر لكم فى الأزهر دونى فاعزلوه، وإن كان الأمر لى دونكم فهذا الذى اخترته، ولن أحيد عنه». وغضب الحاكم غضبًا شديدًا وبخاصة أمام حاشيته فأرسل إلى الشيخ قائلًا: «إن تشبثك برأيك قد يضرك فى منصبك»، فرد الإمام عليه: «إن رأيى لى ومنصبى لهم، ولن أضحى لهم بما يدوم فى سبيل ما يزول» وقدم استقالته، وعُين الشيخ الببلاوى ثم الشيخ الشربينى بعده، ثم أعيد الشيخ حسونة النواوى، ثم صدر الأمر بإعادة الشيخ سليم البشرى مرة ثانية.
وعقب استقالته ذهب فى اليوم التالى إلى الأزهر ليلقى دروسه على طلابه، فقرأ درس «التفسير والحديث» الذى حضره يومئذ نحو ٥٠٠ عالم وباقى الطلبة الذين لم يحص عددهم وكان حريصًا على لزوم بيته، ولم يخرج منه إلا لإلقاء الدروس، وساءت الأحوال فى الأزهر واضطربت الأمور، فاضطر ولاة الأمر إلى اللجوء إليه ليعود إلى منصبه شيخًا للأزهر، ليعالج هذه الاضطرابات، فاشترط أن تُجاب جميع طلباته فورًا وهى: أن تقوم الحكومة بإكرام العلماء والطلبة والتوسع فى أجورهم وأرزاقهم، ورد حقوقهم إليهم، فتقررت زيادة الرواتب للعلماء لعشرة آلاف جنيه سنويًا، أى ما يساوى اليوم عشرة مليارات جنيه توزع بالتساوى عليهم.
مُنح نيشان المجيدى الأول، وكذا الوشاح الأكبر من وسام النيل، وعرف عنه أنه لم يقبض مرتبه فى حياته ولا مرة، ويترك ذلك لمن يثق فيهم، وكل ما كان يقع فى يده من بضعة جنيهات كل شهر ينفقها على الفقراء.
له العديد من المؤلفات ومجموعة من الحواشى فى العقائد والنحو منها: حاشية تحفة الطلاب لشرح رسالة الآداب، حاشية على رسالة الشيخ على فى التوحيد، الاستئناس فى بيان الأعلام وأسماء الأجناس، المقامات السنية فى الرد على القادح فى البعثة النبوية رد فيها على الملحدين «مخطوط بدار الكتب»، كتاب كنز الجواهر، «هدى السارى» مقدمة لكتاب فتح البارى فى شرح صحيح البخارى، عقود الجماعة فى عقائد أهل الإيمان، شرح نهج البردة.
وافته المنية بعد أن جاوز الثمانين من عمره عام ١٩١٦، تاركًا سيرة عطرة فى النطق بالحق والتمسك بالأخلاق الحميدة والتعفف عن الماديات التى هى أصل كل الشرور.
رثاه شاعر النيل «حافظ ابراهيم» «١٨٧٢ - ١٩٣٢م» بقصيدة بليغة مؤثرة قال فى مطلعها: أيدرى المسلمون بمن أصيبوا، وقد واروا «سليمًا» فى التراب هوى ركن «الحديث» فأى قطب؟!، لطلاب الحقيقة والصواب فما فى الناطقين فم يوفّى، عزاء الدين فى هذا المُصاب، قضى الشيخ المحدث وهو يملى على طلابه فصل الخطاب ولم تنقص له «التسعون» عزمًا، ولا صدَّتْه عن دَرَكِ الطِلاب.