رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تونس.. من الانتخابات إلى برلمان وحكومة الإخوان


الرئيس التونسى قيس سعيد كلف الحبيب الجملى كاتب الدولة السابق بوزارة الفلاحة!!، مرشح إخوان تونس «حركة النهضة» بتشكيل الحكومة.. «النهضة» فاز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان فى الانتخابات التشريعية «٥٢ مقعدًا» بنسبة «٢٤٪» من إجمالى المقاعد «٢١٧»، يليه حزب «قلب تونس» بـ٣٨ مقعدًا، ثم «التيار الديمقراطى» ٢٢، و«ائتلاف الكرامة» ٢١، الحزب «الحُر الدستورى» ١٧، «حركة الشعب» ١٦، بينما نال حزب «تحيا تونس» بقيادة رئيس الوزراء يوسف الشاهد ١٤ مقعدًا.. الدستور التونسى يمنح مرشح «النهضة» حق تشكيل الحكومة، خلال مهلة شهرین، على أن يحصل على موافقة البرلمان بأغلبية ١٠٩ أصوات، وإلا يتم تكليف غيره بنفس المهلة، قبل الدعوة إلى انتخابات جديدة.
مجلس شورى «النهضة» رشح رئيس «الحركة» راشد الغنوشى لرئاسة البرلمان، وتمسك بتعيين رئيس للحكومة، وبالفعل تم انتخاب الغنوشى، رئيسًا للبرلمان بـ١٢٣ صوتًا من أصل ٢١٧، بنسبة ٥٧٪، بدعم من «قلب تونس»، وهى المرة الأولى التى يتولى فيها الغنوشى منصبًَا رسميًا منذ عودته للبلاد من منفاه الذى استمر لأكثر من عقدين، بعد سقوط نظام بن على.. «النهضة» تدرك أن ضعف أغلبيتها البرلمانية يفرض عليها تشكيل حكومة ائتلافية، لذلك ترددت فى البداية أمام شغلها منصب رئيس الحكومة، الذى يتمتع بسلطات دستورية تفوق رئيس الجمهورية، وذلك تجنبًا لإغضاب الأحزاب والقوى الرافضة، وحتى لا تجد نفسها مسئولة عن معاناة المواطن، نتيجة التدهور الاقتصادى، كما تخوفت من تكرار تجربة الأداء السيئ فى الحكم «٢٠١٢»، مما يفسر قبول قيادات الحركة مبدأ اختيار رئيس حكومة من خارجها.. الغنوشى أبلغ الأحزاب بالتنازل عن رئاسة الحكومة مقابل السماح له برئاسة البرلمان.. لكنه كان يناور.
اجتماع ٩ نوفمبر لشورى «النهضة» خُصص لاختيار شخصية من داخله لتشكيل الحكومة، باعتبار ذلك حقه الدستورى، لتنفيذ برامجه الانتخابية، وذلك بعد أن أنهت «الجبهة» ترددها، وقررت تولى رئاسة الحكومة والبرلمان، استجابة لرغبة قواعدها، وتوجهات التنظيم الدولى للإخوان، بعد مشاورات الغنوشى فى تركيا ولقائه أردوغان ٢٢ أكتوبر ٢٠١٩.. التنظيم يبحث عن فرصة جديدة، ليؤكد أنه ما زال موجودًا، وأن ما خسره ببعض دول المنطقة، مجرد جولة فى معركة طويلة.. معظم الأحزاب عارضت، وطالبت بالتوافق على شخصية مستقلة، و«التيار الديمقراطى» و«حركة الشعب» و«تحيا تونس»، اشترطت موافقة «النهضة» على مرشح من خارجها لرئاسة الحكومة، كشرط لدعم الغنوشى رئيسًا للبرلمان، والوحيد الذى وافق «تحالف الكرامة».. «الحركة» ناورت، واشترطت إثبات حسن النوايا بدعم الغنوشى أولًا، قبل الحديث عن رئيس الحكومة.
الأحزاب التى عارضت تولى «النهضة» رئاسة الحكومة استندت إلى أن حرج المرحلة يستدعى اختيار رئيس مستقل يحظى بإجماع الأحزاب، ويتمتع بخلفية اقتصادية قادرة على إدارة الاقتصاد المتداعى.. «الحركة» أعدت مشروع وثيقة للتشاور مع الأحزاب والقوى الوطنية، يتكون من ٥ نقاط، تشمل مكافحة الفساد، وتعزيز الأمن وتطوير الحوكمة ومقاومة الفقر ودعم الفئات الهشة والمتوسطة، وتطوير التعليم والصحة والمرافق العمومية، والنهوض بالاستثمار والنمو والتشغيل، واستكمال مؤسسات الدولة ودعم الحكم المحلى.. وبدأت التشاور مع ائتلاف الكرامة والاتحاد العام للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية واتحاد الفلاحة والصيد البحرى.. واستبعد الغنوشى فى مشاوراته «قلب تونس» بسبب شبهات فساد بعض قياداته، وكذا «الدستورى الحر».
أردوغان لعب دورًا حاسمًا فى إقناع الغنوشى بالاستحواذ على منصبى رئيس البرلمان ورئيس الحكومة.. العلاقة بين الرجلين قديمة وعميقة؛ بعد عودته إلى تونس ٢٠١١ وصف الغنوشى التجربة التركية بأنها «نموذج يحتذى، ولولا الأتراك ما كان التونسيون مسلمين»!!، وأردوغان وصف الغنوشى خلال زيارته تونس سبتمبر ٢٠١١ بأنه «الوحيد القادر على قيادة تونس»، وترجم جميع مؤلفاته إلى التركية.. العلاقة ازدادت توثقًا خلال المرحلة التى كان الجناح السرى للحركة يجند المقاتلين لتسفيرهم إلى ليبيا للتدريب، قبل دفعهم لسوريا بالتنسيق مع المخابرات التركية، للالتحاق بداعش، ما يفسر أن تونس لديها أكبر عدد من الإرهابيين بصفوف التنظيم.. وخلال حكم «النهضة» ٢٠١٢، حاولت تركيا غزو تونس ثقافيًا.. حصلت من «الحركة» على مبنى دار دولاتلى الأثرى «تراث القرن الـ١٧»، لتحويله إلى مركز ثقافى، وازدادت المؤسسات الثقافية التركية فى البلاد لـ١٠٠ مركز.. أما حكومة الترويكا فقد فتحت الباب للشركات التركية، حتى بلغت ٢٦ شركة، حجم أعمالها ١٣٨ مليون دولار، توفر قرابة ٢٥٠٠ فرصة عمل.. ومؤخرًا أبرمت صفقة «مشبوهة» لجدولة ديون الشركة التركية صاحبة امتياز استغلال مطار النفيضة الدولى بالحمامات، ما مكنها من تخفيض نحو ٦٥٪ من قيمته.

الوضع فى تونس يتسم بالضبابية؛ أول مظاهره توجهات رئيس الجمهورية المنتخب، المواطن التونسى فقد ثقته فى الأحزاب والنخب الحاكمة، فاختار رئيسًا دون تاريخ سياسى وبلا ظهير حزبى، ما يفسر حالة ترقب الدول العربية لما يمكن أن تسفر عنه التطورات منذ توليه السلطة، علها تكشف عن اتجاهاته. لكن المؤكد أن تونس لن تنفتح بشكل كافٍ على السعودية والإمارات نظرًا لسيطرة الإخوان على مفاصل الدولة، ومن الطبيعى أن تكون أقرب إلى قطر وتركيا.. وعلى الصعيد الداخلى فإن تأكيد الرئيس رفضه وجود أجهزة تعمل خارج إطار الدولة، يؤشر لاحتمالية الصدام مع «النهضة» بسبب جناحها السرى، وهو ما يمكن أن ينفى كل ما تم ترويجه من شائعات عن تعاطف الرئيس مع الإخوان.. ومما يحسب له توجيهاته بإطلاق حملة مكافحة الفساد، وبدء عمليات تدقيق مالى شملت وزارة الخارجية والشركات العامة، تنفيذًا لتعهده بمكافحة الفساد.. الرئيس يدرك أن ظواهر عدم الاستقرار التى تجتاح المشرق العربى منبعها توحش الفساد، إلى الحد الذى أضحى يمس المواطن مباشرة، سواء فى مستوى معيشته أو أوضاعه الأمنية، لذلك يسعى لتقويضه فى تونس.
لكن المستقبل السياسى لتونس غير مبشر، لأن «النهضة» فى مأزق كبير يصعب الخروج منه، فهى أمام إعادة إنتاج فشلها عندما حكمت البلاد ٢٠١١، لكن إعلان ترامب عزمه تصنيف جماعة الإخوان تنظيمًا إرهابيًا، أثار هلعَ تنظيماتها بالمنطقة، ودفعها للبحث عن مصدر للحفاظ على مشروعيتها، وهو أن تتواجد داخل السلطة الحاكمة.. هذه الظاهرة تجسدت فى لبنان، حيث حزب الله المصنف بالفعل إرهابيًا، وكذا فى تونس حيث تتخوف «النهضة» من التصنيف المحتمل.. فقدان رئيس الجمهورية الظهير السياسى والحزبى يتيح للغنوشى فرصة أكبر لأداء دور محورى كرئيس للبرلمان، لكن فرص المناورة أمامه محدودة، لأن الأوضاع الاقتصادية بالغة السوء، لا تحتمل سوء إدارة.. البطالة بلغت خلال الثلث الأول من ٢٠١٩ قرابة ٦٥٠ ألف عاطل بنسبة تتجاوز ١٥٪، والنمو ١.١٪، خلال النصف الأول من العام، الاستثمارات تراجعت ١٢٪، وعجز الموازنة ارتفع بـ١١٪، بخلاف مشكلة تونس المزمنة المتعلقة بالدين العام.. ترى هل يضع الإخوان تونس أمام منحدر الهبوط؟!